دخل السودان خضم الموجة الثانية لفيروس كورونا بـ19.747 إصابة و1.301 حالة وفاة، وفقاً لتقارير وزارة الصحة الاتحادية أمس الخميس. وبعد نفي الحكومة السودانية اعتزامها فرض إغلاق على البلاد أو اتخاذ إجراءات احترازية إضافية، للحد من تفشي الجائحة، أصبحت المواجهة مفتوحة بينها وبين فئات المجتمع المختلفة حول الآثار الناجمة عن ذلك، بسبب قصور النظام الصحي، وإصدار قرارات انتقائية موجهة إلى بعض القطاعات، ما جعل الآثار الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تتفاقم يوماً بعد يوم. وفيما يلي آراء متخصصين سودانيين في المجال الطبي والاقتصادي، ووجهة نظر الشارع.
آثار سياسية
فاقم كورونا من تعثر سياسات الدولة التي وضعتها الحكومة الانتقالية، كما أثر في سير الأعمال بالوزارات المختلفة ومجلس الوزراء، إذ أصاب الفيروس عدداً من موظفي مكتب رئيس الوزراء عبدالله حمدوك. كما انتقلت الإصابة إلى موظفي وزارة الخارجية، وأعلن إغلاق مكاتب خدمات الجمهور قبل أن يجري التراجع عن القرار. ولم تستثنِ الجائحة وزارة المالية وبعض الوزارات الخدمية الأخرى.
وفي هذا الإطار أكد وزير الصحة السوداني أسامة عبد الرحيم، أن "الفيروس فاقم من التحديات المعقدة التي تواجهها الحكومة الانتقالية، لكن على الرغم من هذه الظروف، تمكنت الحكومة من تحقيق السلام في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لتوفي بذلك بأولى متطلبات الفترة الانتقالية، وما زالت جهودها مستمرة من أجل إصلاح الأوضاع الاقتصادية الحرجة التي تمر بها البلاد".
انعكاس على الاقتصاد
يقول المتخصص الاقتصادي محمد الناير "تسببت الجائحة المتزامنة مع سياسات اتخذتها الحكومة في أن يحدث تأثير كبير على الاقتصاد السوداني والمواطنين بصورة أساسية. ولم تصدر الدولة أي تقارير رسمية توضح حجم الأثر بصورة واضحة، سوى تصريحات مختصرة لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك بأن إيرادات الدولة تأثرت 40 في المئة".
وأوضح "هذه النسبة الكبيرة أربكت المشهد تماماً، وأثرت في الموازنة العامة للدولة، وعلى وفائها بالتزاماتها، خصوصاً الرواتب التي جرت زيادتها بصورة كبيرة بنحو 560 في المئة في أبريل (نيسان) الماضي. وهذه هي الأسباب التي جعلت الدولة تستدين بإفراط من النظام المصرفي بما تجاوز 200 مليار جنيه (أكثر من 3.5 مليار دولار أميركي)، ما أدى إلى ارتفاع نسبة التضخم. ويوجد أيضاً العجز الذي أجيز في الموازنة المعدلة لعام 2020، وبلغ نحو 254 مليار جنيه (أكثر من 4 مليارات دولار أميركي)، بما يشكل نحو 13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي".
وعن تأثيرات كورونا في القطاعات الخدمية الأخرى، تابع الناير "قطاع التعليم واحد من المتضررين، إذ لم تستطع الدولة توفير التعليم عن بعد والتعليم الإلكتروني لتردي خدمة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في البلاد، وكذلك النقل، خصوصاً البري الذي يعتمد عليه السودان بصورة أساسية. كما عانت الصادرات والواردات وقطاع الطيران والقطاع السياحي".
أبعاد صحية
وتعليقاً على ارتفاع عدد الإصابات، قال الطبيب محمد قرشي، المتخصص في مجال تبسيط العلوم "حتى الآن لا تزال الأرقام الرسمية للإصابات والوفيات في السودان أقل من مستوياتها بالذروة السابقة، مع تساوي أعداد الفحص بين الفترتين. كما أن الدراسة الأخيرة من قسم الوبائيات والأمراض المعدية بكلية إمبريال بلندن قدرت أعداد الوفيات بالموجة السابقة بنحو 16 ألف وفاة على الأقل".
وأضاف "الإجراءات المشددة حينها، على الرغم من تقليلها من حجم الموجة السابقة، أسهمت في تغذية حالة إنكار شعبي قوية للمرض وتجاهل حالات الوفاة بكونها مسببة من أمراض أخرى. وهذا لا ينفي أن الموجة الحالية يتوقع لها أن تكون أقوى، سواء بسبب عدم وجود أي نية إغلاق حالياً، أو تزامنها مع موسم الشتاء الذي يعد فترة انتشار الأمراض التنفسية، أو حسب تقديرات الدراسة السابقة التي تتوقع حصيلة وفيات تبلغ 27 ألفاً على الأقل".
وعن تأثيرات الجائحة في النظام والمؤسسات الصحية في السودان، أوضح قرشي أن "النظام الصحي في البلاد يعاني مشكلات مزمنة، تتضح بسهولة حين نعرف أن ميزانيته طوال العقود الثلاثة الماضية قد ظلت في حدود اثنين في المئة فقط".
وتابع "لم تتوقف تأثيرات الجائحة عند إرهاق الطاقة الاستيعابية الضعيفة للمستشفيات ومراكز العناية المركزة، بل تعدتها لتمس حياة الأطباء مباشرة، لعدم توافر اللبس الواقي ونقص الفحوص وحالة إنكار المرض المنتشرة بين رواد المستشفيات، كما أدت إلى خلل كبير في الخدمات الصحية الأخرى، منها خدمات جوهرية، مثل التحصين وحسن الاستجابة للأمراض الوبائية الأخرى كالحميات الأخيرة بالولاية الشمالية".
إحصائية غير دقيقة
وعن إحصائية وزارة الصحة الاتحادية، التي وصلت إلى 19747 حالة وفاة، كشف قرشي عن أنها "ليست دقيقة"، لعدة أسباب "أولها الواقع الماثل الذي يشي من مصادر مختلفة بتفشي حالات أكثر بكثير مما يظهر في التقرير الرسمي، لكن الأهم من ذلك هو أننا نملك بالفعل معياراً علمياً، يثبت أن عدد الفحوص اليومية لا يوضح معدل الانتشار الوبائي على الإطلاق، فنسبة الفحوص الإيجابية للسلبية في الحالات المشتبه فيها تفوق عشرة في المئة بكثير، بينما تقول منظمة الصحة العالمية إن أي نسبة تفوق هذا الحد، إنما تدل على عدم معرفة مدى الانتشار الحقيقي تماماً. وما يزيد الطين بلة العدد الكبير من الفحوص التي تُجرى للمسافرين، وتضاف في التقرير الوبائي إلى حالات الاشتباه، مما ينقص من النسبة الإيجابية".
ورأى قرشي أن "انعدام الثقة في الحكومة وسياستها الصحية يجيء لأسباب كثيرة، منها سوء تطبيق الإغلاق السابق، وخلطه مع الأحداث السياسية، وعدم ظهور الجدية في إعداد النظام الصحي، لتحمل ما جاء بعدها من عبء ثقيل؛ لذا فإن تقبل انتشار الموجة الثانية حالياً قد جرى جزئياً بسبب عدم الإغلاق. ومن الملاحظ أن هناك اتجاهاً متزايداً للاعتراف بالوباء، وبدء التزام الاشتراطات الصحية في الشارع العام، بعد تزايد حالات الوفاة وظهور المرض بشكل واضح دون إنكار".
خسارة فادحة
وعن إمكانية تفادي المضاعفات في ظل الحياة السودانية المفتوحة والاجتماعيات المتواصلة أرجع قرشي ذلك إلى أنه "كان يمكن تفادي التفشي الواسع للمرض، ومن ثم تخفيف العبء عن النظام الصحي وتقليل حالات الإصابة بين الفئات الأكثر تأثراً عبر الالتزام بإجراءات وقائية وحمائية بسيطة معروفة، إضافة إلى توفير الحماية للفئات الأكثر تأثراً بالعزل المنزلي وتقليل الاختلاط معهم".
وواصل "لكن عدم توافر جدية كافية من قيادة الدولة أضاع هذه الفرصة، فقد جرى التعامل مع الجائحة كحادث صغير يخص وزارة الصحة، بدلاً عن كونها طوارئ على مستوى الدولة، وعلى الرغم من تكوين لجنة عليا لإدارتها فإن حضورها كان ضعيفاً جداً سواء في توفير الموارد اللازمة للفحص وإعداد اللازم للعلاج، أو التنسيق بين أجهزة الدولة إعلاماً وقوات نظامية نحو رفع وعي الشعب بالخطر وتطبيق الاشتراطات الصحية بشكل متمدن صحي، لا بشكل أمني يزيد من الريبة في كونها مجرد حجة حكومية لإسكات الاحتجاج".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح "الصورة الكاملة للثمن الذي دفعناه نتيجة الوباء ستتكشف لاحقاً. وتقديري أنه خسارة فادحة، فإضافة إلى عدد الوفيات المباشرة حالياً، سنجد حالات تلقى حتفها بسبب تعطل الخدمات الصحية بالقطاعين العام والخاص بالذروة السابقة قد تفوق وفيات الوباء نفسه، كما أن المضاعفات المتوقعة سيكون لها تأثيرات ممتدة حتى على أصحاب الإصابات الخفيفة والمتوسطة، وكمثال على ذلك من المتوقع أن يزيد عدد المصابين بمرض السكري لأول مرة بعد الوباء، ناهيك بفقداننا كثيراً من أعمدة ورموز المجتمع من كبار السن، مثل الصادق المهدي، والفنان حمد الريح، وعشرة من كبار الأطباء الاستشاريين الذين جاءت وفاتهم في أوقات متقاربة في الفترة الماضية".
إغلاق صالات الأفراح
في المقابل، أعلن والي الخرطوم أيمن نمر إغلاق صالات الأفراح والمناسبات منذ 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ما أثار ردود فعل عديدة بين مؤيد ومعارض، ومن ينتقد يراه قراراً انتقائياً ركز على الصالات، وتجاهل أماكن التجمعات الأخرى، مثل الاحتفالات الرسمية والاستقبال الحاشد لقيادات سياسية.
وفي ذلك، ذكر عثمان بوب، منسق مناسبات أفراح، أن "القرار جائر، لأنه اتخذ دون سابق إنذار، وشمل 85 صالة أفراح وشركات تنظيم المناسبات وحجوزات الفنانين في ولاية الخرطوم وحدها. وفي هذا الإطار اقترحنا عدة حلول تتضمن التزام الاحترازات الصحية وتقليل عدد المدعوين قدمناها للوالي، كي لا يتأثر أصحاب المناسبات والأعراس، ولا يتضرر عملنا، خصوصاً أن حجز هذه المناسبات يكون قبل ثلاثة أشهر على أقل تقدير".
وأضاف "حدث ضرر كبير لنا وإحراج مع عملائنا وأسرهم، فكل ما أخذناه من مبالغ كمقدم دخلت فور تسلمها في بند مصروفات العمالة والمرتبات وغيرها من مصاريف التشغيل. كما أن هذه المبالغ يدخل جزء منها للدولة كخدمات. وأدخلنا ذلك في ملاحقات مالية، إذ أرهقنا بالديون من إيجارات ومرتبات، وغيرها، خصوصاً أننا نستبدل مكان المناسبة بالتجهيز في المنازل أو المزارع والحدائق".
أزمات قادمة
خلص الناير إلى أنه "نسبة لتحمل موازنة عام 2020 تكاليف أعلى مما كان مقدراً لها نسبة لمواجهة جائحة كورونا على الرغم من ضعف الدولة، فقد عانى المواطن حينما أعلنت الدولة إغلاقاً كاملاً ومفاجئاً، ولم يكن السودان مستعداً لهذه الخطوة، وكان أثرها كبيراً على الشرائح الضعيفة والفقيرة ومحدودي الدخل"، متوقعاً أن "الدولة قد تصل إلى مرحلة الإغلاق الكامل من دون ترتيبات محددة ودون حماية للشرائح والأسر الفقيرة بصورة أساسية. ونتيجة لاتخاذ قرارات خاطئة من تحرير أسعار المحروقات وزيادتها فقد وصل معدل التضخم إلى 229 في المئة كأعلى معدل تضخم في تاريخ السودان، وقد يصل في إعلان ديسمبر إلى حاجز 300 في المئة، إضافة إلى تدهور قيمة العملة الوطنية".
واختتم التوقعات بأن "خطط السودان التي كانت مبنية بالاعتماد على المجتمع الدولي والحصول على منح أو قروض باءت بخيبة أمل نسبة لتأثير الجائحة عالمياً، وما ستواجهه الشرائح الضعيفة من مشكلات وأزمات سيكون كبيراً، خصوصاً أن الاقتصاد لم يستطع ضخ أموال للمؤسسات حتى لا يحدث انهيار اقتصادي، كما سيحدث نمو سالب بسبب الجائحة خلال هذين العامين (2020 - 2021)، كما سيحدث ارتفاع في معدل البطالة، نتيجة لتوقف شركات القطاع الخاص".