الحديث الذي أدلى به سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، إلى قناة "روسيا اليوم"، يبدو أقرب إلى استعراض مجمل نتائج نشاطه كوزير للخارجية، خصوصاً أنه الأكثر بقاءً في مثل هذا المنصب بعد أندريه جروميكو (عميد الدبلوماسيتين السوفياتية والعالمية الأسبق)، وعلى الرغم مما يتردد حول طلبه أكثر من مرة من الرئيس فلاديمير بوتين إعفاءه من مهامه.
وكان بوتين قد سارع مع انتهاء سنوات ولايته الأولى، عام 2004، إلى استدعاء لافروف من مقر عمله كمندوب دائم لبلاده في الأمم المتحدة لما يزيد على السنوات العشر، ليخلف سلفه إيغور إيفانوف، الذي انتقل إلى منصبه الجديد سكرتيراً لمجلس الأمن القومي الروسي. ومنذ ذلك الحين، ظل وزير الخارجية في صدارة قائمة الشخصيات الرسمية الأكثر شعبية في استطلاعات الرأي، التي تجريها أجهزة قياس الرأي العام، بعد الرئيس بوتين، ومع وزير الدفاع سيرغي شويغو.
كان التوقيت أكثر من مناسب للدفع بلافروف إلى صدارة الساحة السياسية المحلية والعالمية لأسباب متعددة، ليس آخرها حاجة الرئيس الروسي إلى وجوه جديدة يبدأ معها مسيرته كرئيس للدولة يتمتع بأكبر قدر من الاستقلالية بعد تخلصه من رموز الحكم السابق، الذين فرضهم عليه الرئيس الأسبق بوريس يلتسين بموجب "الصفقة"، التي عقدها معه مقابل تخليه عن الحكم، والتي اشتملت على توفير الضمانات اللازمة له ولعائلته بعد رحيله عن الكرملين. وكان بوتين قد تخلص من رئيس الحكومة ميخائيل كاسيانوف، وألكسندر فولوشين، رئيس ديوان الكرملين، وآخرين في إطار تغيير الحكومة.
وجاء لافروف، الذي عمل في السابق نائباً لوزير الخارجية، ليؤكد مدى اتساع مساحة التوافق في الرؤى مع بوتين تجاه كثير من القضايا الدولية، وأهمها رفضه عالم القطب الواحد، وضرورة التعاون مع بلدان الجبهة الشرقية، ومنها الصين والهند، وفق رؤية "حكيم الدبلوماسية الروسية" يفغيني بريماكوف، الذي كان يرتبط بكل منهما بعلاقة أقرب إلى الوصاية والمشورة، بحكم سنوات العمل المشترك.
فبركة اتهامات
من هذا المنظور يمكن تناول ما قاله لافروف، في حديثه إلى "روسيا اليوم"، بشأن مواصلة البلدان الغربية "فبركة" اتهامات لموسكو بالتدخل في شؤونها الداخلية، متوقعاً استمرارها في المستقبل، بدلاً من التركيز على الحوار للتوصل إلى حلول مقبولة للقضايا العالمية من جانب مختلف أطراف الساحة الدولية.
وأكد عميد الدبلوماسية الروسية عدم جدوى الخطوات أحادية الجانب، التي قال إنها لن تسفر عن الحلول المنشودة، بل ويمكن أن تزيد من تفاقم وتعقيد ما يواجه المجتمع الدولي من مشاكل وقضايا. وخلص لافروف إلى أن "أي اتفاق يمكن أن تتوصل إليه الأطراف المعنية في إطار طابع شمولي، ومهما استغرق من وقت، يظل الأكثر جدوى وواقعية. أما الوجه الآخر لمثل هذه العملية، أي استمرار التعاون مع الشركاء في الرأي ممن يلتفون حول فكرة واحدة، فإن ما سيسفر عنه من نتائج، لن يخرج بالحلول المرجوة، ولن يتعدى الدفع بالأمور إلى نفق المواجهة"، وذلك ما يفعله الغرب، الذي قال لافروف إنه "لا يرغب في التحول صوب التنازلات المتبادلة والعمل من أجل تحقيق المصالح المشتركة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال الدبلوماسي الروسي، الذي قضى معظم سنوات عمله بين جنبات منظمة الأمم المتحدة، إن هناك من يعمل في إطار "شركاء الرأي ووحدة المواقف" تارة من أجل التوصل إلى حتمية عدم استخدام الأسلحة الكيماوية، وأخرى حول أهمية الأمن السيبراني، على الرغم من وجود توافق شامل حول هذه القضايا في إطار منظومة الأمم المتحدة. وفي هذا الصدد، أكد أن "البلدان الغربية لا تحب المنافسة الشريفة في أي زمان، وحول أي قضايا، سواء كان ذلك في منظمة الأمم المتحدة أو منظمة الصحة العالمية، أو اليونسكو، وغيرها من المنظمات الدولية".
ومن هنا، تتطاير اتهامات هذه البلدان ضد روسيا في الآونة الأخيرة، بزعم أنها تتدخل في بيلاروس تارة، وفي ناغورنو قره باغ تارة أخرى، وكأنما من أجل توطيد مواقعها الجيوسياسية ضد الغرب في إطار تواطؤ مع تركيا من أجل تقسيم مناطق النفوذ في المنطقة. وعن ذلك، قال لافروف إن بلاده على استعداد لمواجهة كل الاحتمالات.
الاعتراف بروسيا
على أن أهم ما توصل إليه لافروف من نتائج نشاط السياسة والدبلوماسية الروسية خلال السنوات الـ15 الأخيرة، يتلخص في أن الغرب اضطر إلى الاعتراف بروسيا كدولة مستقلة ذات سيادة بكل ما تحتمل هذه الكلمات من معانٍ، في إشارة إلى ما كانت عليه بلاده في تسعينيات القرن الماضي.
ويذكر التاريخ أن روسيا دخلت نفقاً مظلماً في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث انعكست مشاكل الداخل على ما تتخذه من قرارات ومواقف، في حين تخلت عن كثير من مواقعها السابقة في الساحة الدولية، تاركة زمام أمورها إلى واشنطن التي تحكمت في اختيار وزير خارجيتها، إلى الحد الذي كشفت فيه المصادر الروسية عن اتصال هاتفي أجراه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب بنظيره الروسي بوريس يلتسين يطلب منه فيه تعيين أندريه كوزيريف وزيراً للخارجية، وهو ما امتثل إليه الرئيس الروسي حتى عام 1996، عندما اضطر إلى تغييره وتعيين يفغيني بريماكوف، ليعيد إلى المنصب كثيراً من وقاره، وللدبلوماسية الروسية مكانتها وسابق عهدها.
ونذكر أن كوزيريف كان تحول بعد إقالته من منصبه "بحجة حظر الجمع بين عضويته في مجلس الدوما، ومنصبه في السلطة التنفيذية"، للعمل مندوباً لمبيعات شركة أدوية أميركية في روسيا، ولاحقاً انتقل للإقامة في الولايات المتحدة، التي يعيش فيها حتى اليوم.
وعودة إلى حديث عميد الدبلوماسية الروسية، لنشير إلى ما وصفه لافروف بالتأثير التراكمي لإدراك الغرب، في نهاية المطاف، ما صارت عليه موسكو كقوة مستقلة، بما لها من مصالح وطنية تظل تحكم سياساتها على قدم المساواة مع المصالح الوطنية للدول الأخرى، في إطار مقررات القانون الدولي. ومن هنا، أكد لافروف أن بلاده تدرك مغبة محاولات الغرب مواصلة سياساته تجاه سلب روسيا حقها في تقرير مستقبلها، إضافة إلى "ترويجها لمختلف سيناريوهات العمل من أجل تغيير النظام القائم فيها".
وفي هذا الصدد، كشف عن أن "محاولات تحقيق أكبر قدر من المكاسب الدعائية في مجال السياسة الغربية، باتت تغطي ومنذ فترات طويلة مضت على جوهر ما تواجه كثيراً من مناطق العالم من مشكلات، وبما لا يخدم مصالح شعوبها".
وكشف عما يدبره الكونغرس الأميركي من عقوبات على دولة الاتحاد التي تجمع بين روسيا وبيلاروس، لمجرد وجودها كدولة اتحادية، لا تتفق مع هوى من يتوق شوقاً إلى اندلاع ثورة ملونة أخرى في بيلاروس.
وتوقع وزير الخارجية الروسي أن يجد الكونغرس ما يريده من أسباب لتبرير ما يدبره من عقوبات. وقال إن "الغرب قادر ليس على البحث عن الأسباب فحسب، بل وعلى اختراعها من فراغ"، مؤكداً أن "الزملاء الغربيين لا حدود لديهم لتحقيق الكمال".
وكان لافروف قد استهل الإجابة عن أسئلة "روسيا اليوم" بتقديم تهنئته للقناة التي وقف الكرملين وراء تأسيسها منذ 15 عاماً، حيث صدرت في البداية باللغة الإنجليزية، وسرعان ما أعقبتها اللغات الفرنسية والعربية، ثم الإسبانية. وقال إن هذه القناة "باتت من رواد البث الإعلامي"، في الوقت الذي تظل فيه إحدى أهم الوسائل الإعلامية شبه الحكومية التي تحظى بدعم الكرملين وكل المؤسسات الروسية الرسمية.