في التعريف الأكاديمي لمفهوم الدولة الفاشلة، ثمة معايير ومؤشرات سياسية واقتصادية واجتماعية، تتناول تفاصيل الانهيار الاقتصادي والفقر والتضخم والبطالة والديون وتعثّر الإنتاج وشرعية السلطة والخدمات العامة والحاجات اليومية للصحة والدواء والطعام وحقوق الإنسان والتدخلات الخارجية وغيرها من تعريفات. وفي كل من هذه المعايير، تفاصيل تسمح بتحديد فشل أي دولة ككيان وكارتدادات على بنيتها.
وإذا اعتمدت مقاربة علمية لمواءمة لبنان مع المعايير التي يتم من خلالها وصف أي دولة بـ"الفاشلة"، تتصدر البلاد تلك اللائحة بإقرار معظم المتابعين للشأن العام. حتى الرئيس اللبناني ميشال عون قال في رسالة وجّهها إلى أعضاء مجلس النواب، إن التدقيق المحاسبي الجنائي ضروري كي لا يصبح البلد في عداد الدول المارقة أو الفاشلة في نظر المجتمع الدولي، ما يعطي انطباعاً على انعدام الثقة الداخلية والخارجية بكيان الدولة اللبنانية وعدم فاعلية مؤسساتها، التي تعاني من انحلال يهدد الأمن الاجتماعي للشعب.
إقرار رسمي وشعبي
وفي وقت هناك شبه إقرار شعبي ورسمي بأن لبنان بات دولة فاشلة، تتقاذف القوى السياسية مسؤولية "الفشل" من دون أن يكون هناك أي جهد لإنقاذ الحد الأدنى المتبقي من "الكيان"، فـ"حزب الله" وحلفاؤه يريدون تحميل ما يسمّونه "المنظومة المصرفية" سبب الانهيار، في حين يرى خصوم الحزب أن "الدويلة" التي يقودها هي من أوصلت البلد إلى السقوط.
وفي هذا الإطار، تشير المعلومات إلى أن عدداً من الشخصيات القيادية في الجاليات اللبنانية في دول الاغتراب، تتواصل منذ فترة في ما بينها، وتوافقت على تقديم طلب إلى الأمم المتحدة من أجل إعلان لبنان "دولة فاشلة"، مستندة إلى الإقرار الدولي بفشل السلطات، الذي ظهر في عمل "المجموعة الدولية لدعم لبنان" بعد انفجار مرفأ بيروت، إذ اعتمدت آلية إرسال المساعدات إلى الشعب عبر هيئات دولية بالتنسيق مع المجتمع المدني المحلي.
الاغتراب يعلن "معركة التحرير"
ووفق لبنانيون مقيمون في الخارج، فإن الأزمة باتت في صلب عمل الجاليات في مختلف دول القارات الخمس، حيث برز انقسام في "الجامعة الثقافية" التي تمثل الاغتراب، ما دفع بممثلي معظم الجاليات المنضوية تحت سقفها إلى الاجتماع في المكسيك للتباحث في دور الاغتراب لدعم القضية اللبنانية، معلنين أن "بيروت عاصمة محتلّة" وأن "معركة تحرير لبنان قد بدأت" عبر التضامن والضغط على دول القرار لإنهاء "الاحتلال". وطالبوا الأمم المتحدة بتنفيذ كل القرارات الدولية المتعلقة بلبنان وترسيم حدوده البحرية والبرية مع كل من إسرائيل وسوريا لإنهاء انتهاكاتهما لسيادة البلاد وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المستمرة عبر العودة وإعادة النازحين السوريين إلى مناطق آمنة في بلدهم برعاية دولية. ودعوا في بيان لهم الأفراد والمنظمات الاغترابية كافة، إلى الانضمام لهذا التحالف، خصوصاً في دول القرار.
وردّاً على البيان الذي أصدرته تلك المجموعات، اعتبر الرئيس العالمي للجامعة اللبنانية الثقافية عباس فواز أن هذا البيان يشكل اعتداءً معنوياً وانتحال صفة، مؤكداً أن الاجتماع الذي حصل في المكسيك تحت اسم "الجامعة اللبنانية الثقافية" ليس شرعياً.
وتفيد المصادر الاغترابية بأنه في حال اتخذ مجلس الأمن قراراً بتبنّي هذا الطلب، فإن القوانين والقرارات الأممية تصبح نافذة وتطبّق على لبنان تحت الفصل السابع، فيكون ذلك مقدمة لوضع أسس تسهم في إعادة بناء الدولة، إذ إن الجاليات تدرك أن أي تحرك مماثل في الداخل سيواجه بالقمع والعنف من قبل السلطات القائمة.
مفهوم سياسي
في السياق، رأى المحامي المتخصص في القانون الدولي نديم البستاني أن تعبير "الدولة الفاشلة" هو مفهوم ذات معنى سياسي أكثر منه قانوني، وذلك مردّه إلى مبدأيْ سيادة الدول وعدم التدخل المكرّسين ضمن ميثاق الأمم المتحدة في المادة الثانية منه. وبناء عليه، ليست هناك آلية قانونية معتمدة بغية تصنيف أي دولة بـ"الفاشلة"، كما أنه لا يمكن إعلان إفلاس الدول، بل إنها تخضع لمؤشرات التصنيف العالمي، بحيث تضحى الدولة مجبرة على الالتزام بشروط اقتصادية وسياسية قاسية، بغية الحصول على الأموال الصعبة الضرورية لاستيراد الحاجات الأساسية وتأمينها. "إلا أنه في حال الممانعة، وفي ظل عدم القدرة الذاتية على النهوض خارج الشعارات الغوغائية، التي يلجأ إليها السياسيون الشعبويون أو العقائديون في عدد من الدول المحكومة بديكتاتوريات شمولية، يصبح مصير الشعوب في حالات كهذه محتوماً إلى الهلاك والذل والمرض والمجاعة"، بحسب البستاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أربعة معايير
وأشار إلى أنه يمكن الارتكاز على معايير ثابتة عدة من أجل تشخيص فشل الدول، وأهمها مدى قدرتها على فرض هيبتها على كامل أراضيها وكامل شعبها وعلى حماية الحدود، وهو ما يترجم بمدى سلطة الدولة على احتكار القوة العسكرية، وتوفير الخدمات العامة والحاجات الأساسية للمواطنين من كهرباء وماء وغذاء ودواء وطرقات ووسائل نقل وتدفئة واتصال وأمن. ومدى تمكّنها أيضاً من التواصل مع المجتمع الدولي كعضو كامل العضوية في الأسرة الدولية، واتخاذ قرارات جماعية متمتعة بالشرعية بنظر الشعب.
وقال المحامي المتخصص في القانون الدولي إن "الصاعق في الموضوع هو كون وضعية الدولة اللبنانية باتت تستوفي المعايير الأربعة، في ظل وجود السلاح الفلسطيني وسلاح حزب الله وتنظيمات أخرى فوق القانون، وهذا لا يشبه حالات التسلح الفردي الخفيف المعبّر عنه بالمقولة الشائعة "كل الشعب مسلح"، إذ إن هذا السلاح المبعثر لا يتجاوز الطابع الفولكلوري، ولم يتبلور حتى الساعة بأية قيمة أمنية أو وزن سياسي يتحدى سيادة الدولة أو يتوازى وإياها. ولا يمكن أن ننسى وضعية اللاجئين وفشل الدولة في حلها، ما جعل لبنان تحت وصاية المجتمع الدولي لهذه الناحية. واكتمل الشوط بعد الانهيار الاقتصادي الكبير والنهائي وانفجار المرفأ وتهالك مؤسسات الدولة ومشروعيتها بالنسبة إلى شعبها، بحيث تمت دعوة ممثلين عن المجتمع المدني إلى المؤتمر الدولي الأخير الذي نظم برعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإبداء رأيهم بالأوضاع العامة، والأهم أنهم استؤمنوا وحدهم للاستحواذ على المساعدات المالية، بما في ذلك من تعبير واضح عن فشل الدولة"، مضيفاً أن "هذا الحدث تم بحضور رئيس الجمهورية، الذي بات بفعل قبوله بما حصل مقرّاً بفشل العهد، لا بل بفشل الدولة برمّتها في عهده".
بُعد استخباراتي وسياسي
أما أستاذ العلاقات الدولية قاسم حدرج، فاعتبر أن "الدولة الفاشلة مصطلح سياسي جديد ظهر في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن التركيز عليه ووضع معايير له، بدأ بالتسعينيات، بالتالي فإن ميثاق الأمم المتحدة لا يتضمن أي آلية قانونية ينبغي اتباعها في معالجة أوضاع الدول التي تصنّف فاشلة"، كما أنه لا توجد جهة رسمية محددة مخوّلة بإصدار حكم نهائي على دولة ما واعتبارها "فاشلة"، وقد تصدت لهذا الأمر مجموعة من مراكز الدراسات، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، وضعت معايير لتصنيف الدول، ثم تبعتها نشرات تصدر عن البنك الدولي ووكالة الاستخبارات الأميركية، "بحيث لا تخلو هذه الدراسات التي تحدد مقدار الفشل الذي يعاني منه بعض الدول، من البعد السياسي الذي يخدم أغراض استعمارية مقنّعة".
ويشير حدرج إلى أنه ولكون ميثاق الأمم المتحدة لا يتضمن آلية قانونية محددة للتعامل مع حالات كهذه، فقد تم وضع الدول المصنفة بـ"الفاشلة" تحت خانة الدول التي تهدد السلم والأمن الدوليين، بالتالي شرعنة التدخل بشؤونها الداخلية، وصولاً إلى التدخل العسكري وإصدار قرارات تحت الفصل السابع، تمكّن المجتمع الدولي من إدارة شؤونها لحين تصبح قادرة على إصلاح الخلل في بنيتها الوظيفية على الصعيدين السياسي والأمني واستعادة السيطرة على كل مفاصل الدولة، بحيث يتلاشى خطر انهيارها الذي قد يؤدي إلى تمدد المخاطر لدول الجوار، وقد شهدنا أمثلة كثيرة بهذا الخصوص في سوريا واليمن.
أسوأ دول العالم
وقال أستاذ العلاقات الدولية، "بعد العراق، نشهد مقدمات مشابهة في لبنان، إذ أعربت مرجعيات سياسية ودينية عدّة عن رغبتها في وضع لبنان تحت الوصاية الدولية، باعتباره "دولة فاشلة" استناداً إلى توافر معايير معتمدة كثيرة لتصنيف كهذا، ناهيك عن نشرات مراكز الأبحاث الدولية التي وضعت لبنان بين أسوأ خمس دول في العالم، وثاني دولة بعد فنزويلا بالتضخم". وأضاف "حتى وزير الخارجية المستقيل ناصيف حتي قال في بيان استقالته إن لبنان يتجه سريعاً ليكون في عداد الدول الفاشلة، وقد تضاعفت هذه المؤشرات بعد انفجار مرفأ بيروت وإعلان العاصمة مدينة منكوبة".
وأضاف حدرج أن لبنان وفي ظل هذه الظروف المأساوية، عاجز عن تشكيل حكومة ترضي المجتمع الدولي، وتقوم بالإصلاحات المشروطة لمساعدته في الخروج من النفق المظلم. كل هذه الأمور تُضاف إليها تصريحات القوى الكبرى مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا، التي تعزز الاعتقاد بأن لبنان أصبح تحت المجهر الدولي تمهيداً لتصنيفه "دولة فاشلة" تهدد السلم والأمن الدوليين، وبأنه بات تحت سيطرة قوى خارجية تستأثر بالقرار الوطني، ما يستدعي تدخلاً عاجلاً من قبل المجتمع الدولي لمساعدته في إعادة تكوين نظامه السياسي والأمني والاقتصادي، الذي فقده وفقد معه مقومات الدولة الطبيعية. وقد نشهد في المرحلة المقبلة وعلى ضوء فشل القوى السياسية في استعادة زمام المبادرة، قرارات دولية تتعلق بلبنان تضعه تحت الوصاية.