قبل ذي بدء، إن مفهوم العدمية ناتج عن أسباب نفسية أكثر منها عقلية، فالتشاؤم والشك والاضطراب وكل ما هو شديد السلبية يدفع بالفرد أن لا يؤمن بإمكانية معرفة أي شيء في الوجود. وبذلك تكون النظرة تدميرية تجاه الحياة والمجتمع والعالم والكون والماوراء. وهكذا يجادل العدميون الحديثون والمعاصرون: فلاسفة وأدباء وفنانين وغيرهم، بالضد من كل المعتقدات والقيم والأفكار الاجتماعية والدينية والأخلاقية والإلهية، حيث لا جدوى منها، لأن الوجود بلا هدف أصلًا.
دون ريب يعتبر أبو العلاء المعري (973-1057) مؤسس فلسفة التشاؤم ورائد الفكر العدمي. وبواعث تشاؤمه ترتبط بحياته منذ صغر سنه حتى شيخوخته، حيث خلقت فيه نزعة نفسية حادة. ففي سن الثالثة أُصيب بالجدري فأفقده بصره، قطع دراسته في طرابلس بسبب موت أبيه، زار بغداد مرتين طلباً للعلم، لكنه لم يستطع البقاء فيها طويلا، ولم يحصل على مساعدة أحد حتى من خاله أبي طاهر، بل اتهموه بالإلحاد، وفي طريق عودته إلى بلاد الشام، عرف بوفاة أمه، فأصابه الحزن والوجد، وعند هذه المرحلة قرر أن لا يخرج من بيته متكلا على وقف يدرّ عليه ثلاثين دينارا في السنة، يتقاسمها بينه وبين خادمه. وسمّى نفسه "رهين المحبسين"، حبيس العمى وحبيس المنزل الذي لم يغادره من العام 1010 حتى وافته المنية، بسبب مرض لم يمهله أكثر من ثلاثة أيام. وحسب وصيته طلب أن يُكتب على قبره بيته الشعري الذي يقول فيه:
هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحدِ.
إن سهام المعري التشاؤمية رماها على جميع الجوانب الحياتية والسياسية والدينية والاجتماعية. فعن الأديان والأنبياء والواعظين الهادفة إلى إصلاح البشر، فكل ذلك لا يتحقق، لأن الله لم يقدّر للناس صلاحا:
كم وعظ الواعظون منّا
وقام في الأرض أنبياء؟
فانصرفوا والبلاء باقٍ
ولم يزُلْ داؤك العياء
حُكمٌ جرى للمليك فينا
ونحن في الأصل أغبياء
وبما أن المعري يؤمن بالله، ويؤمن بقدرته تعالى على الخلق من العدم، لكن العدمية عند المعري تعني الحقيقة الثابتة التي خلقنا الله منها، ثم نعود إليها. ففي "الُعدم كنّا" وبعد الخلق ننتهي إلى عدم "ثانٍ". وبذلك تعتبر العدمية عند المعري بداية ونهاية الوجود، وأن الحياة ليست أكثر من جسر "بين عدمين" نعبر سريعا من خلاله:
في العُدم كنّا وحُكم الله أوجدنا
ثم اتّفقنا على ثانٍ من العَدم
- حياةٌ كجسرٍ بين موتين أولٍ
وثانٍ وفقد الشخص أن يُعبَر الجسر
نمرُّ سراعا بين عُدمين مالنّا
لباثٌ كأنّا عابرون على جسرِ
ورغم أن هذه الأبيات وغيرها الكثير تجعل المعري على خلاف مع الدين، وهو يدرك ذلك جيدا، لكن وضعه النفسي المضطرب، وحرمانه من مباهج الحياة، والصراعات السياسية والنزاعات الفكرية، جعلته دامس الرؤيا وفاقد الأمل من الدنيا وما فيها.
هذا ويعّد آرثر شوبنهاور (1788-1860) القطب الثاني في فلسفة التشاؤم ونظرته إلى العدمية فكرا ونهجا. ولقد أثرت فيه بعض الأوضاع، حيث أن أباه مات منتحرا سنة 1805، وأن جدته لأبيه توفيت بعد أن أصابها مرض الجنون، وان أمه على تنافر معه وخصام مستمر، لأنها كانت أديبة مرموقة ولا تريد أن يطغى على شهرتها أحد من عائلتها حتى لو كان وحيدها آرثر. وفي إحدى المشاجرات معه دفعته من على السّلم فتدحرج بضع درجات. كانت تقسو عليه وتجافيه، خصوصا بعدما أخبرها الشاعر الكبير غوته بعظمة عقلية ابنها في المستقبل. علاوة على الوضع السائد في عموم أوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، منها سلسلة الحروب النابليونية والاضطرابات السياسية. ومثل المعري، عاش شوبنهاور وحيدا طيلة حياته.
إن عدمية شوبنهار تجعل الوجود مجرد وهم، حيث يقول "إن من لا يستطيع أن ينظر إلى الناس والأشياء جميعا، وفي كل عصور التاريخ كأشباح وأوهام فليست له ملكة الفلسفة". ويرى أيضا أن: كل إنسان يعتقد أنه حر منذ الأزل حرية كاملة، وأنه يظن باستطاعته أن يبدأ بحياة جديدة، ولكن التجربة سرعان ما تعلمه أنه ليس حرا، وأنه خاضع للضرورة، وينفذ نفس الأخلاق التي كان ينتدقها هو نفسه.
إن العالم شر وسوء، حسب تصور شوبنهاور، وبذلك في "كل فرد حوض من الألم لا محيص عنه"، وحتى إذا فرضنا جدلاً أن هذا الألم له نهاية، فإنه سوف "يحل مكانه على الفور عناء آخر" وليس لدينا من ذلك لا مفر ولا محيص. إن "السعادة" في حقيقتها سلبية، لأننا لا نشعر تمام الشعور بما لدينا من أسباب النعيم ولا نحمدها، بل ننظر إليها باعتبارها شيئا طبيعيا ليس إلا. وعليه فإن السعادة لا تنفعنا إلا على نحو سلبي فقط، بأن تقف أسباب العذاب، فنحن لا ندرك قيمتها إلا إذا فقدناها، لأن الحاجة والحرمان والأسى هي الجانب الإيجابي الذي يتصل بنا اتصالا مباشرا.
أما عن الدين واللاهوت، فيرى شوبنهاور أننا نحن الذين نصنعه: ليكون مهربا من خوف الموت، فكذلك قد ينتابنا الجنون ليكون مهربا من الألم. ويجيء الجنون وسيلة نتخذها كيما نتجنب بها ذكرى الألم، فهو قطع في سلسلة الإدراك، وقد يكون فيه نجاتنا.
وعلى نمط المعري وشوبنهاور يأتي فرديرك نيتشه (1844-1900)، لكنه يتميزعن سابقَيه، إنه شخّص العدمية في الحياة الإنسانية ومدى تأثيرها على الحضارة بشكل عام. إلا أن هذا التشخيص ينحصر في الواقع الأوروبي الذي بدأت مدنيته تأخذ طابعا ماديا في التنافس السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهكذا مع مطلع القرن العشرين انتشرت العدمية في أوروبا بشكل ملحوظ، حيث بدأت تؤثر على المبادئ والقيم والثقافة، فخلقت أوضاعا تتميز بالقلق والخوف والكآبة والغضب.
يرى نيتشه أن "كل اعتقاد، كل اعتبار أن شيئا ما صحيح، هو بالضرورة خطأ لأنه لا يوجد ببساطة عالم حقيقي". من هنا، فإن العدمية توجب علينا أن نتنصل كليا من جميع القيم والمعاني المفروضة. لأن "العدمية" ليست أكثر من تدمير الشيء، كل شيء موجود. إن "العدمية ليست فقط الاعتقاد بأن كل شيء يستحق أن يهلك، ولكن أن يدمر أحدهم الحرث والنسل" على حدٍ سواء.
ويذهب نيتشه في عدميته ناقدًا الحضارة الغربية، حيث ستصل العدمية إلى فضح وتدمير العيوب المدنية والمعتقدات القوية والحقائق المقدسة التي هيمنت على الإنسان حياتيا وفكريا. وهذا التدمير العدمي للقيم والأخلاق سيتحقق، كما تحقق سابقا تجاه الأساطير الغربية البالية. وبذلك فإن الانهيار لِما يتعلق بمفاهيم: المعنى والأهمية والغرض، سيكون أكثر القوى تدميراً في التاريخ، مما يشكل أزمة إنسانية خطيرة لم تصل إليها قط.
وبالنسبة إلى نيتشه "لقد ماتت الآلهة جميعا"، وحتى إذا كان هنالك إله واحد، "فماذا عسى أن يُخلق" ذلك الإله؟"، وأمام إرادة القوة تجد أن العقل والأخلاق ضعيفة، ولا يستطيعان عصيانها، فهذه النظم الفلسفية كلها لا تدل على الحقيقة المنشودة، ولكنها تصوير لرغباتنا ليس أكثر. إن أسمى جوانب الإنسان هو قوة الإرادة وثبات العاطفة، إذ بغير العاطفة يكون الإنسان رخوا لا يصلح للعمل. إن الشر والحسد والكراهية شروط لا بد منها ليسير التنازع والاختيار والبقاء، لا بد أن ننحي الخير بجانب الشر كما نصلح العادة بشيء من التجربة والتجديد.
إن نظرية دارون "بقاء الأصلح"، قد جعلها نيتشه مدخلًا لفلسفته في فهم التنازع في الحياة، وما يترتب عليها من نتائج حتمية في الأخلاق. حيث صارت القوة بدل الطيبة، والكبرياء دون الخنوع، الذكاء لا الإيثار. وعندما تحل القوة محل العدالة، فإن المساواة والحرية والديموقراطية تكون مناقضة لنظرية البقاء للأصلح.
هذا ولعبت الفلسفة الوجودية دورا بارزا في مسألة العدمية طيلة القرن العشرين. وكان مارتن هيدجر (1889-1976) يعتقد أن العدمية هي "الحالة الطبيعية للإنسان"، رغم أنها تتنوع في أشكال متعددة ظاهرة أو خفية، وأن الإنسان عندما ينتابه "القلق" فهي نتيجة طبيعية، كونه يدرك أنه محكوم عليه بالموت الذي هو العدم نفسه. وهذا يعني أن فكرة المحكومية العدمية عند المعري، يراها هيدجر بصورة مغايرة، فالقلق منشأه الخوف من العدم، وبذلك يكون مصدره الوجود. بمعنى أن القلق يكشف عن العدم، والعدم بدوره يكشف عن معنى الوجود.
وحسب مفهوم هيدجر فإن القلق يتصل بالأنا، وهو "الوجود في العالم"، حيث الشعور القوي بالعزلة في هذا الوجود. فالقلق يعمل على تجريد الذات الإنسانية، ويساعد الإنسان على تأكيد ذاته، وأن يكون هو نفسه، إن هذا الوجود الإنساني هو "الوجود الأصيل"، حيث القبول بمعايشة القلق لإثبات ذاتية الفرد الذي يسعى إلى معرفة حقيقته، ومعنى وجوده الخاص في هذا العالم.
وإذا تحقق للفرد تلك المعرفة، فإنه سيدرك أن القلق يعني لا معقولية الوجود، وأن الحياة غير مجدية، حيث لا معنى لها أيضا. إلا أنه مع الاستمرار في الحياة، فإن الإنسان هو الذي يمنح الحياة معناها والوجود معقوليته، وذلك عندما تتمتع الذات بالحرية. وأن القلق يحث الإنسان إلى البحث عن جوهر الحقيقة الخفية.
أما جان بول سارتر (1905-1980) الذي دفع بالحركة الوجودية الإلحادية في فرنسا إلى أن تنتشر بين الوعي الشعبي، وأن تمتد إلى محيطها الغربي خلال العقدين الرابع والخامس من القرن الماضي، وفق مقولته "الوجود يسبق الجوهر". حيث يرفض التسليم بالفكرة القائلة بوجود أساس أولي يسهم في وجود جوهر الذات أو الطبيعة البشرية. وحسب تصور سارتر فإن العدم ليس مصدرا للحرية فقط، بل هو أيضا رعب وجودي وآلام عاطفية. وهذه الحقيقة تجعلنا نتخلى عن الأوهام، ونكتشف أن الحياة لا شيء البتة.
إن هذا الوضع العدمي تجاه الحياة والإنسان أظهر قيمة "العبثية" و"اللاجدوى" عند ألبير كامو (1913-1960). ففي "أسطورة سيزيف" 1942، يبين كامو مدى إدانة الكفاح الأبدي غير المجدي. وكان مقتنعا بأن "العدمية" من أكثر المشاكل التي تسبب قلقا في القرن العشرين. ويرى أيضا أن العدمية يمكن أن تنتصر إذا تراجعت وأضمحلت الماورائيات من عقل الإنسان، لأن من سمات العدمية، وفق تصوره، التدمير المقبول والكراهية الشديدة والعنف والموت.
ويستمر مفهوم العدمية الوجودية، حيث أن العالم بلا معنى، أو لا غرض يهدف إليه. وبذلك فإن كل الأعمال والمعاناة والشعور تكون نتائجها النهائية خواء دون معنى. وفي هذا الصدد يحضر الوجودي الأميركي المعاصر ألن بروس برات (1959-) بكتابه "الجانب المظلم: أفكار حول مستقبل الحياة من الإغريق إلى الحاضر" 1994، حيث يتتبع فيه بشكل موجز تاريخ العدمية، ويقدم مجموعة مختارة من نصوص مقتبسة وفق ترتيبها الزمني التي تصف عدم جدوى الحياة؛ وكذلك يتضمن ملفات تعريف مختصرة لأفكار أحلك المفكرين. ويرى برات أنه "منذ البداية، كانت العدمية الوجودية جزءا من التقليد الفكري الغربي".
إن المركز المحوري الذي تدور من حوله الأفكار الفلسفية والأدبية الوجودية تتعلق بالأنا في مواجهة العدم. والاستمرار في تناول هذه القضية فيما بينهم، من أجل إيجاد أرضية قد تمكن الإنسان من البقاء على قيد الحياة. وحسب رأيهم من الممكن تحقيق ذلك شريطة أن نتخلى عن المشاعر والأحاسيس وفق إطار عاطفي رصين.
وإلى أواخر القرن العشرين لم تختلف "العدمية" عند الوجوديين عما كانوا عليه في بدايته، إلا بما يتوافق مع المُعطيات والمستجدات، وذلك بالتركيز على الآثار الإيجابية التي يكشف عنها العدم، مثل: الحرية، وإمكانية الإبداع، والاستقلالية. بمعنى أن نجد لأنفسنا طُرقا كيما نخرج من السلبية.
وفي كتاب "تجربة العدم: 1968-1998"، يُحدد مايكل نوفاك (1933-2017) هدفين رئيسين، الأول يوضح فيه المسارات التي تصبح بها تجربة العدم شائعة بين جميع الذين يعيشون في المجتمعات الحرة. أما الثاني، فقام بتفصيل وجهات نظر التجارب المتنوعة في العدم. وكانت معظم المناقشات حول هذه الأمور تتعلق بالحقل الأوروبي. ومع ذاك، فإن نوفاك في مقدمة كتابه، يوضح هذه التجربة من الشكل في السياق الأميركي. ويسرد أربعة متطلبات يجب أن يستوفيها الفرد لكي تظهر عليه تجربة العدم، وهي: الالتزام بالأمانة والالتزام بالشجاعة والاعتراف بمدى انتشار تجربة العدم وفكرة الإرادة.
وحسب مفهوم نوفاك، فإن هذه المبادئ هي التي توجه العدميين الفلسفيين الذين يصفون أنفسهم بأنفسهم. لكن الكثير من الناس يقترضون ببساطة الاستنتاجات العدمية دون مراعاة الالتزامات الأخلاقية تجاههم. لهذا السبب يعتقد نوفاك أن العدمية هي زائفة لأن النظرية تهدف إلى شرح تجربة العدم. العدمية في الممارسة، وغالبا ما تؤدي إلى نتائج في شكل من أشكال التعصب؛ ولهذا كان يُحذر اليسار الجديد من أن الطوباوية قد تؤدي إلى الغربة والعدم. إن تجربة العدم عمل سيجعل الكثير من العلماء يعيدون التفكير في معتقداتهم. وينبغي أن يقرأها الفلاسفة واللاهوتيون والمؤرخون وعلماء الاجتماع والنظريات السياسية.
صفوة القول، وانطلاقا من العقلية الغربية، يرى نوفاك أننا نعمل منذ الحرب العالمية الثانية، بيد أن عملنا ليس أكثر من محاولة "الهروب من العدمية" في سبيل بناء حضارة جديدة.