الفتيات يتهادين في خطواتهن بفساتين بسيطة مليئة بالتفاصيل الناعمة، والرجال لا يغادرون بدلهم الأنيقة تقريبا، الشارع العادي يبدو وكأنه معدٌّ خصيصا للنزهة، لا صخب، ولا تشويش. حياة رائقة، حتى صراعاتها تظهر على الشاشة مثل حكاية مسلية تسافر بالمشاهد عبر الزمن. قصص مصرية لا نعرفها، في أماكن تبدو مألوفة ولكنها بعيدة جدا، من العصيّ الإمساك بها إلا بفعل الديكورات المعدة مسبقا والحوار المجهز سلفا. شاشات السينما والتلفزيون تحتفي بمصر القديمة من العشرينيات وحتى السبعينيات، فيما تحظى فترة الأربعينيات وأوائل الخمسينيات بشعبية جارفة بين تلك الأعمال، فما هو سر هذا الغرام المفاجئ؟!
ثنائيات رومانسية تحتفي بما كان
على مدار سنوات قليلة وبشكل متتابع، تنقّلت مجموعة من الأعمال الفنية اللافتة بين محافظات مصر في حقب زمنية متفاوتة، ونالت تلك الأعمال قبولا عريضا في الشارع- بالطبع لم تنقطع الدراما التاريخية والسياسية عن التطرق إلى هذه الحقب الزمنية ولكن ليس بهذا التتابع والاهتمام الذي شكّل أخيرا ظاهرة- صناع تلك الأعمال بدورهم أعجبهم الرهان الرابح، حيث عالم مختلف وموازٍ وجاذب كذلك. "غراند أوتيل" الذي تدور قصته حول جريمة قتل غامضة تقع في أحد الفنادق، تم تصويره في أسوان، وتناول مطلع الخمسينيات بتفاصيل ملهمة، وأحداث مشوقة على خلفية قصة حب بين "نازلي" و"علي"، وهي أجواء أبهرت الجمهور وقتها، حتى أنه كان من أوائل المسلسلات المصرية التي بدأ عرضها على منصة "نتفليكس".
سبقه بعام مسلسل "طريقي"، الذي عرض في 2015 حول قصة صعود مطربة تعيش في قرية ريفية في فترة الستينيات، ثم تنتقل أحداث العمل إلى الإسكندرية، وكان أيضا من أنجح الأعمال حينها، وتضمن أكثر من قصة رومانسية.
أيضا انتهى قبل أيام عرض مسلسل "أهو ده اللي صار"، الذي تناول أكثر من فترة تاريخية بالإسكندرية بداية من عام 1918، وصولا إلى السبعينيات، مع لمحة من العصر الحالي كذلك، حيث ضجت السوشيال ميديا بصور ومشاهد العمل خصوصا قصة "نادرة" و"يوسف"، وكان هناك اهتمام خاص بفترة الأربعينيات في الأحداث، والتي شهدت زخما كبيرا، مع تميز خاص كذلك لفترة العشرينيات التي تبدو غامضة جدا بالنسبة إلى الأجيال الجديدة.
فيما كان الاحتفاء الأكبر بفترة الأربعينيات، من خلال مسلسل "ليالي أوجيني" الذي عرض في رمضان 2018، حيث البطلة المتخفية ظنا منها أنها متهمة بقتل زوجها، وتعيش قصة حب موازية، مليئة بالتفاصيل التي حفظها الجمهور، بدءا من النظرات الخجولة بين "كريمان" و"فريد"، مرورا بالخطابات المكتوبة بقلم الحبر وبخط أنيق، وحتى لقاءاتها مع الحبيب في مطعم "صوفيا" بمحافظة بورسعيد. الجمهور تعرّف هنا إلى تلك الفترة بطريقة شاعرية، حتى أن أزياء البطلات نالت شعبية واسعة، وعبر السوشيال ميديا قام بعض المصممين الهواة بتقديم موديلات شبيهة بها لتلقى رواجا، بل هناك بعض المتاجر استوحت اسمها ونوعية وأسلوب معروضاتها من تلك الفترة.
الحنين إلى الماضي رائج إنتاجيا
رغم أن الأعمال السابق ذكرها أغلبها مأخوذ عن مسلسلات كولومبية وإسبانيةـ فيما عدا "أهو ده اللي صار"، فالقصة كتبها المؤلف عبد الرحيم كمال ولم يقتبسها- ولكن صناعها نجحوا في تمصيرها بجدارة، واعتنوا بكافة لمحاتها، حيث ظهرت المدن المصرية في تلك الفترات بأبهى حلة، وبالتالي كنت جرعة الحنين تزداد مع كل عمل يعرض، وهو الأمر الذي
جعل شركات الإنتاج تقدم على تنفيذ المزيد، رغم التكلفة الكبيرة. هنا تؤكد المؤلفة إنجي القاسم، التي تشاركت مع الكاتبة سماء عبد الخالق في كتابة رؤية وسيناريو وحوار مسلسل "ليالي أوجيني"، أن الجهات الإنتاجية لم تعد تخشى تقديم تلك الأعمال، رغم ميزانيتها الضخمة وصعوباتها، فيما يتعلق بمحاكاة العصر بكل تفاصيله من شوارع وملابس وسيارات وغيره، لأن التجارب أثبتت أن المردود والعائد يكون كبيرا أيضا ومتناسقا مع المجهود الكبير في الإنتاج.
تلفت القاسم إلى أن مسلسل مثل "ليالي أوجيني" الذي كتبته مع سماء عبد الخالق، و"أهو ده اللي صار"، الذي كتبه المؤلف عبد الرحيم كمال، جرى التمهيد لهما مسبقا بأعمال مثل "غراند أوتيل" و"طريقي"، وتتابع "أريد أن أركز على (غراند أوتيل) و(ليالي أوجيني)، حيث شاركتُ في كتابات النصين، الأول مع السيناريست تامر حبيب والثاني مع سماء عبد الخالق، والحقيقة أننا اخترنا الأربعينيات وبداية الخمسينيات لنحاول الابتعاد عن أي فترات بها صراع سياسي كبير، لكي نركز في الحكاية التي يتناولها العمل، وكي لا نشتت المشاهد ولنخدم (الحدوتة)، وبالتالي اخترنا الحقبة الملائمة، وبالطبع كانت هناك صعوبات كبيرة في الكتابة، فهي أجواء لم نعشها ولم نعلم عنها شيئا حتى الألفاظ مختلفة، وبالتالي كنا نحاول الجلوس مع أشخاص عايشوها أو نلجأ إلى القراءة عنها، فالأمر هنا أصعب كثيرا من كتابة عمل معاصر".
إنها المشاهد واللقطات التي تثير حنين الجمهور، حتى لو لم يعش ذلك العصر، فتلقائيا يتولّد الشوق والشغف لمتابعة (حواديت) لم يكن المتلقي بطلا لمثلها يوما، فكيف صاغتها وحاكتها إنجي القاسم بالاشتراك مع رفيقتها في الكتابة سماء عبد الخالق، تقول القاسم "كلنا تربينا على الفرجة والأفلام والمسلسلات والمسرحيات القديمة، ومن المؤكد هناك حنين موروث حتى لو لم نعاصره، فكل أبناء جيلنا ورثوا هذا الحنين مكثفا، والحقيقة كنا محظوظين بالاطلاع على هذه العصور من خلال الأعمال الفنية القديمة المحفوظة، ومن غير شك كلنا يتمنى أن يعيش تلك الحقب
القديمة، لنلمس هذا الذوق في التعامل وإيقاع الحياة الهادئ، وحتى الملابس ونوعية الرومانسية، ونحن سعداء بأننا في الأقل نجحنا أن نعيش في هذا العصر حتى لو بالخيال فقط".
تكشف إنجي القاسم ملمحا من سبب نجاح تلك الأعمال بالقول "الجمهور مشتاق جدا لتلك الفترات التي ترصد مصر في عصر أكثر هدوءا وشاعرية، وهذا ما رصدناه في تعليقات المشاهدين على تلك الأعمال عبر السشويال ميديا، خصوصا (ليالي أوجيني)، فالتعليقات كانت تنصب على أن الجمهور يسافر في الزمن خلال مدة الحلقة، وينفصلون عن المشاكل الحيايتة وإيقاعها السريع، إلى العصر الرائق البسيط، فالناس مشتاقة لهذه الأجواء".
السينما لها نصيب أيضا
السينما أيضا كان لها نصيب من إلقاء الضوء على حقبة الأربعينيات من خلال فيلم "الكنز"، الذي عُرض جزؤه الأول قبل عامين، ويُعرض جزؤه الثاني قريبا، حيث تناول عدة فترات تاريخية بمصر بما فيها فترة الأربعينيات من خلال قصة "بشر الكتاتني" و"نعمات رزق"، أيضا عرض فيلم "تراب الماس" في جزء منه لعدة مشاهد مؤثرة في السياق من فترة الأربعينيات، التي اكتشف المشاهدون مدى ثراء تلك الفترة دراميا، فيما كانت قد أهملها صناع الدراما كثيرا، وأخيرا بدؤوا ينتبهون إلى قيمتها من خلال أعمال تحقق مكانة لائقة لدى الجمهور المتعطش.