لم يكن يبدو على الكاتب الإنجليزي جون لوكاريه أنه سوف يخلد يوماً إلى الصمت ويتوقف عن إصدار الكتب في شكل شبه منتظم، هو الذي اعتاد أن يقول أن لا شيء سوى الموت يمكن أن يوقفه عن الكتابة. وها هو اليوم سوف يتوقف. الموت اختطفه قبل أيام من دون أن يسمح له ببلوغ عامه التسعين. باغتنا قبل أن نتمكن من جمع أفكارنا مكتفين بالعودة إلى بعض كتاباتنا السابقة عنه!. فالمبدع الكبير لروايات التجسس وروايات الحرب الباردة والذي تختلط لديه الأبعاد النفسية لشخصياته مع الأحداث الكبرى مع العلاقات الشخصية التي تكاد تنتمي إلى نوع شديد الإنجليزية والخصوصية من الحكايات العائلية، لم يكن من الذين يؤمنون بالتقاعد، حتى وإن كانت حركته قد تباطأت خلال العامين الأخيرين اللذين سبقا رحيله، وهو يدور من حول تسعينياته، وحتى ولو أن الحرب الباردة لم تعد كما عهدها. وحتى أخيراً ولو أن "جواسيسه الكبار" إما تجاوزوا سن التقاعد أو ماتوا أو اختفوا من دون أن يقول لنا أين.
نبع حكايات ومؤرخ لسيرته
كان جون لوكاريه، واسمه الحقيقي دافيد كرومويل، نبعاً من الحكايات لا ينضب ونعرف أنه غالباً ما كان يستقي موضوعاته وشخصياته من تجاربه الشخصية أو من تجارب رفاق له- جواسيس وعملاء يشتغلون مع الاستخبارات البريطانية-، ولعل هذا أجمل ما في مساره المهني، الكتابي والاستخباراتي. وهو بالمناسبة ما يغطيه كتابان لهما علاقة مباشرة به، أحدهما سيرته كما كتبها آدم سيسمان وصدرت قبل رحيله بسنوات ما يفرض الآن أن يستكملها، والثاني روايته "نفق الحمام" التي ستبدو دائماً ولا سيما الآن على ضوء رحيله واحدة من أكثر رواياته ذاتية وتبدو انطلاقاً من ذلك شديدة القرب من رائعته المكثفة التي صدرت قبل سنوات وحوّلت فيلماً مميزاً، "تنكر تايلور".
كان لوكاريه يقول عن "نفق الحمام"، إنها "رواية أحداث حقيقية كُتبت من الذاكرة، تدفعك في كل لحظة من لحظات القراءة إلى التساؤل عمّا هو حقيقي فيها وعمّا هو من وحي الخيال". والحال أنه إذا كان الكاتب نفسه، وهو صاحب الذكريات، يطرح هذه الفرضية؛ كيف ستكون حال القراء؟
روائيّ الحرب الباردة
ومهما يكن من أمر ومنذ "الجاسوس الآتي من الصقيع" (1964)، عرف لوكاريه بروائيّ الحرب الباردة بامتياز. وها هو عند نهايته، يعود... إلى روايات الحرب الباردة، التي كان ثمة اعتقاد بأن "أدبها" انتهى مع انتهائها. أو بالأحرى كما قال لوكاريه، مع صدور روايته "رحلة الحج السرية" (1990): "مثل دون كيشوت أمضيت حياتي كلها وأنا أرصد تدفق الشر. بعد ذلك، في لحظات يأس رحت أتساءل عما إذا لم أكن أنا نفسي قد أضحيت مساهماً في ذلك التدفق...". بمثل هذا الكلام، كان من المعتقد، إذاً، أن لوكاريه سوف يخلد إلى الراحة، لكنه لم يفعل. وكيف يفعل كاتب كان همه الأساس دائماً التوغل في ذلك العالم السري، عالم الاستخبارات، وهو عارف أن هذا العالم لا نهاية له، بحرب باردة أو من دونها؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا في أي حال ما يمكننا استخلاصه من "نفق الحمام" حيث وكما سبق للوكاريه أن فعل في "رحلة الحج السرية" راح يغوص من جديد في عالم "الرفاق" الحقيقيين ليكتب، بالتوازي مع سيرته، نوعاً من نصوص شبهها الكاتب الإنجليزي ويليام بويد في مقال له عن لوكاريه بـ "اعترافات" جان جاك روسو من ناحية تعرية الذات والصراحة المطلقة، متوقفاً عند تفاصيل لا شك أنها أضجرت لوكاريه حين قرأ المقال. غير أن هذه التفاصيل لا تفقد "اعترافات" لوكاريه شيئاً من نكهتها الرائعة، يقول بويد ونوافقه نحن، إذ لا يجب أن ننسى، هنا، أن المسألة، مع جون لوكاريه، هي على الدوام مسألة التوغل في عوالم أجهزة الاستخبارات تلك، وعملياتها وصراعاتها، وبخاصة خلال مرحلة الحرب الباردة. وكونه قد أسهم مع مواطنَيْه غراهام غرين وسامرست موم في رفع أدب التجسس من دائرة الأدب الشعبي الترفيهي والمثير، إلى عالم الأدب الروائي الكبير.
الأدب الصغير بات كبيراً
وحسبنا أن نقلب صفحات أي من روايات لوكاريه، كي ندرك هذا، وكي ندرك مقدرة الرجل ونصوصه على التوغل في داخلية الشخصيات، وعلى رفع المشاهد العادية إلى مستوى اللحظات الخالدة، وعلى رسم التفاصيل الصغيرة بوصفها عناصر أساسية في عالم يتكامل داخله مع خارجه، ولا يكف شخوصه عن طرح أنفسهم على بساط البحث. وهذا بالتحديد ما يطالعنا في كل صفحة من صفحات "نفق الحمام" حيث نجدنا أمام ضروب اليأس والتساؤل والخيانة، منظوراً إليها على أنها فعل إنساني صرف (كما في رواية "الخلد" حيث يستوحي لوكاريه حياة وخيانة الجاسوس كيم فيليبي الذي هرب إلى موسكو حين افتضح أمره وأمر تعامله مع الاستخبارات السوفياتية). ونحن هنا أيضاً أمام حالات أوديبية (موت الأب في رواية "جاسوس خالص" التي تضعنا على تماس مع الجاسوس الإنجليزي مانغوس بيم، حين يختفي غداة رحيل والده، فتعتقد الأجهزة أنه هرب إلى الشرق بسبب خيانة ما... لكن الحقيقة أنه كان قد شاء أن يحتفل بموت والده على طريقته الخاصة، فلجأ إلى غرفة فندق في مدينة ساحلية صغيرة وراح يتذكر ماضيه)، ثم نحن أمام عقل سياسي يتأمل مصير الحرب الباردة على ضوء البيريسترويكا ويتساءل عن جدوى كل ما أنفق الجواسيس حياتهم في سبيله، متسائلاً من خدع من؟ من هذا الخلط الغريب والمدهش بين السياسي والروحي الخالص، بين الأسئلة المقلقة واليقين المخادع، بين حياة الذات والآخرين، ترسم "اعترافات" جون لوكاريه مسيرة روائية تؤرخ لنوع من الذهنيات، في نوع من الصراعات، في نوع من العوالم، تعيدنا مباشرة إلى الأعوام الخمسين الأخيرة، وتضعنا على تماس مع عوالم الأغوار المظلمة والصراعات العنيفة والمبادئ والخيانات، ولكن منظوراً إليها على الدوام عبر مرآة الروح، وعبر مرآة الذات.
حياة مزدوجة
ودايفيد كورنويل ولد في دورست بجنوب غربي إنجلترا عام 1931 لأب كان نصاباً محترفاً، عرف السجن والعز في شكل متلاحق، وأثرت شخصيته في شخصية ابنه تأثيراً حاسماً (كما سيروي لنا جون لوكاريه في روايته التطهرية "جاسوس خالص"). ودرس كورنويل الألمانية ثم علم في "أيتون" بين 1956 و1958. وعام 1959 بدأ عمله"الديبلوماسي"، كسكرتير ثانٍ للسفارة البريطانية في بون قبل أن يصبح قنصلاً في هامبورغ. وعام 1961 نشر روايته الأولى "نداء الموت" التي خلق فيها شخصية جورج سمايلي، التي ستصبح شخصية مركزية في معظم رواياته التالية. وهو منذ ذلك الحين راح يخوض حياة مزدوجة: كدبلوماسي ورجل استخبارات باسمه الحقيقي دايفيد كورنويل، وككاتب باسم جون لوكاريه، وظل ذلك دأبه حتى نال جائزتين أدبيتين في عام 1963 عن أشهر رواياته "الجاسوس الذي أتى من الصقيع"، فترك العمل الرسمي وتفرغ للكتابة نهائياً. وهو منذ ذلك الحين أصدر روايات عدة: "مرآة الجواسيس" (1965)، "مدينة صغيرة في ألمانيا" (1968)، "عاشق ساذج وعاطفي" (1971)، "الخلد" (1974)، "كمثل طالب كلية" (1977)، "توم سمايلي" (1980)، "الفتاة ذات الطبل" (1983) و"جاسوس خالص" (1986) و"بيت روسيا" (1989). وصولاً إلى رواياته الأخيرة التي خرج فيها نهائياً عن قضايا الحرب الباردة وأشهرها بالتأكيد "أغنية النهر" و"حلاق باناما".
على هذا النحو، مرة كل ثلاثة أعوام، وبصورة شديدة الانتظام، راح جون لوكاريه يرسم تلك العوالم التي تتراوح بين برودة الأماكن والصراعات، وبين حرارة البشر، متنقلاً في شتى الأماكن التي كانت مسرح الحرب الباردة، من ألمانيا إلى النمسا، من موسكو إلى نيويورك، من لندن إلى شمال اسكتلندا، إلى المخيمات الفلسطينية (في روايته المبهمة "الفتاة ذات الطبل") إلى باريس والجنوب الفرنسي والقرى الريفية البريطانية، خالقاً في الوقت ذاته عشرات الشخصيات التي تتتابع لديها، أزمات التساؤل القلق، مع رغبات الهرب، مع نوازع الغدر، مع مشاعر الحب الصارخ، وهذه الشخصيات التي يعتبر جورج سمايلي ومانغوس بيم أشهرها على الإطلاق جعلها قلم لوكاريه تعيش شتى المواقف، وهو ما يفصّله لنا أخيراً في "نفق الحمام" التي بمقدار ما هي "رواية" هي أيضاً سيرة ذاتية ومحصلة حياة، تحمل ما يمكن اعتباره ملخّصاً لأجمل ما تحفل به كتابات جون لوكاريه، عبر سرد لحظات يطرح الكاتب على نفسه فيها كل الأسئلة، لا سيما أسئلة الخوف والإخفاق.
لن يظهر في موعده بعد الآن
واليوم بات علينا بالتأكيد أن نعتاد على عدم الحصول على زوادتنا مرة كل ثلاث سنوات، من كتابات جون لوكاريه، مكتفين في لحظات حنين ما، بالعودة إلى كتبه القديمة التي تؤرخ له ولنصف قرن من تبدّل الذهنيات في العالم، باحثين فيها عما يصفه هو نفسه بأنه أجزاء من سيرته "عرفت كيف أبثها تدريجياً، نتفاً نتفاً من رواية إلى أخرى"، كما يقول ومن دون أن يضيف، داعياً قراءه الذين يعدّون بالملايين إلى جمع تلك النتف كما تجمع الكلمات المتقاطعة للمثول أخيراً أمام سيرة كاملة له، وربما أيضاً لأبيه الذي لا شك أنه لعب دوراً كبيراً في حياته ولو بشكل سلبيّ!