رواية "من مفكرة رجل لم يولد"، للكاتب الليبي يوسف القويري، التي نُشرت عام 1965، من روايات الخيال العلمي والمستقبليات، وجاءت في صيغة يوميات متخيلة بين أعوام 2565 و2567. يتخيل فيها الكاتب أن خليج سرت، وهو أكبر خليج في البحر المتوسط، قد أنشئت في صحرائه أكبر بحيرة ماء عذب اصطناعية، وجعل من مدينة "سرت" أكبر مختبر دولي في علم الصحراء والمياه، والعلماء هم سكان المدينة، وبقية السكان يعيشون في حديقة وافرة، ويتنقلون بالطيران الذاتي في قبة سماوية اصطناعية تحوط أجواء المدينة. "سرت" هذه كاد ما عُرف بـ "داعش"، التنظيم الدولي للنازية الجديدة، أن يجعل منها "الإمارة" المركز للدولة الإسلامية المنشودة، وطبعاً نتذكر أن هذه المدينة كانت مسقط رأس الديكتاتور "معمر القذافي".
ما تؤكده الرواية أنك لا تستطيع الوصول إلى الهدف غير التقليدي بوسيلة تقليدية، وهذا ما تبين خلال هذه الحقبة المميزة في العالم والمنطقة، إذ إن القوى الناعمة تستخدم رأسمالها الرمزي بطرائق اجتازها الشارع، ممن يرسم بلغة "الغرافيتي" ويغني الراب، أما الفلسفة التي يتعاطاها فهي الواقعية الإجرائية، ولذا شاهدنا عطالة فكرية عند النخبة التقليدية المتحصنة بنظرياتها الجهوزية.
وقد انتشرت لغة تبادل التهم بين النخب والشارع الذي خاب أمله في النخب وفي نفسه حتى، وانقلب السحر على الساحر، فبتنا لا نرى القوى الناعمة حتى في الأحلام، مع تأكيد أن الكابوس حقيقة ظاهرة مجسدة على الأرض، تجسّد في العنف الذي أكل إرادة الشعب الذي يريد الحياة، وإرادة الحياة تآكلت مع غياب ظاهر للقوى الناعمة، وصمت مُطبق للنخب التي تلهثُ خلف "فرانكشتاين". و"داعش" أيقونة الفعل وكسْرِ إرادة الشعب الذي أراد الحياة.
هذه الحال كأنما هي مرآة تعكس صورة "فاوست"، فالمثقف والقوى الناعمة ما خاب ظنهما في نفسيهما، وذلك حدث على الخصوص عقب تعاطي شحنة عاطفية زائدة أثناء اللحظة الاستثنائية في التاريخ الحديث، وهي اللحظة التي كما تحقق الحلم العربي، تتحوّل فجأة إلى دين العنف وعنف الدين، فأمسى العنف مبرر الوجود، يتعاطاه الكل مثل أوكسجين، فتعاظم هذا مع استفحال غياب القوى الناعمة، وتركها الساحة للغة الرصاص وأساليب الأمن لاستئصال العنف، وعُدنا والعود أحمد لشعارنا السيء السمعة، "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وبطل هذه المعركة "الزير سالم" الذي يريد "جساس" حياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد تراجعت الثقافة بعد أن كان أعلن من قبل عن موت المثقف، كما في أطروحة "علي حرب" مثلاً، وغدت الثقافة الآن وهنا ردود أفعال، مثل الفتاوى والفتاوى مضادة، وتفسيرات تدحضُ تفسيرات، فساد فقه الماضي الذي ارتهن إليه الجميع، فالماضي والماضي المضاد أصبحا مستقبل هذه الثقافة، ولا أفق غير النظر إلى الخلف، حتى أصبح المتراس في حروب أهلية ساخنة وباردة، وكما هي نافورة للدم فهي نافورة للتفكك والانشقاقات، ومرجعتيها أيديولوجيا ماضوية بحتة، وقبائل وعشائر وبطون تتجشأ ما خزنته في سالف الزمان، حتى دُعي عند متنوريين بـ "الزمن الجميل"، فمن منهم اصطف في طابور "في انتظار غودو: عودة ابن رشد"؟
هذا مأزق الثقافة عند العرب، والراهن أن العنف أمسى ثقافة وقودها ذاتي، والجميع مشغول بإطفاء الحريق أولاً وأخيراً. إنها اللحظة الحرجة حيث الأهم والمهم فيها إخماد البركان، فأنا مواطن ليبي من مدينة بنغازي حيث بيت النار، في مهجر قسري لانعدام الأمن وتوفر الموت، وحيث المقاومة أيضاً، ولقد عشت في هذه المدينة اضطراداً للعنف واضطراداً لغياب القوى الناعمة، واتخذت من الكلاشينكوف، كما حصل مع الثورة الفلسطينية، إلهاً، ومن المعركة الصوت، ومن أجل هذا لقي الجميع الدعم للتزود بزاد الكلاشينكوف، و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فما حوصرت وانحسرت في قتال شوارع بل وبيوت، وفي أجواء جبانة بمعنى الكلمة.
ما دور القوى الناعمة في هكذا حال؟ هل من صوت يعلو على صوت المعركة، أو على الأقل يواكب؟ هل من سبيل آخر أو إضافي لمواجهة المسيرة التي طالت من نكبة إلى نكسة إلى نكبة؟ هل ما بعد الربيع العربي بالضرورة خريف لا مناص منه، وإن صار الربيع خريفاً، فأليس من مقتضى الحال التعامل مع ما استجد بوسائل مستجدة؟
لقد ألهب واقع الحال الشعور، ما لم تلهب العقول لسان حال كثير منا، ومع أن النخبة قدمت كثيراً من أجل أن يُحتكم إلى العقل، إلا أنها صرعت وتراجعت عن العقل، ممن أمسى يبحث عن مأوى هنا أو هناك، وما نتج أن صارت "الهجرة غير الشرعية" المُراد.
كان ما سُمي الربيع العربي مفاجأة القرن الـ 21، وإن مآله ليس مستحدثاً بالمرة، فقبله حدث في الدنيا ما حدث، فكثير من الثورات هوت في حروب أهلية.
العرب لم يستحدثوا الثورات ومآلها، ولكنهم عربوها فقط، ولهذا فلا بد من وسائل ومبادرات مستحدثة للاندماج ومواجهة هذه المستجدات، ووسائل صغرت أم كبرت، فالحروب يشعلها الشرر ويطفئها رذاذ المطر، لكن ما تحدثه في حينها كبير ونتائجه أكبر، وكما تواكبها قوى النيران، تكون في المواجهة والواجهة، القوى الناعمة.
لقد أسهم المجتمع المدني وانبثق، وبادر ونما في مراحل حرجة وصعبة، وقدم مجهوده الاستثنائي إلى من هو بحاجة إلى البحث والدرس واستنباط الأفكار منه، ومن قبل كان للشباب، الذين هم أغلب سكان بلاد العرب، الدور الأبرز، وهم الآن وقود العنف والحروب، ففي ليبيا مثلاً قد ينقرض مواليد التسعينيات. وهؤلاء الشباب ممن استحدث قبل الحرب طرائق للقوى الناعمة، ليس منها فقط ما أشرت إليه من استحداث لغة "الغرافيت" وغناء "الراب"، بل منها ما أشير إليه حينها من استحداث توظيف الوسائل الإلكترونية والإنترنت، ووسائط التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"تويتر".
لقد ظهر أن للثقافة سبلاً ووسائل مستحدثة، وخطاباً حداثياً في علاقة جدلية بهذه الوسائل التي جرفها العنف عن مسارها، والذي يبدو كما نازية جديدة دينها العنف وقوميتها الدين.
مفكرة من لم يولد بعد، مليئة بدروس قاسية وعنيفة، ولكنها دروس يمكنها بعقلانية أن تقفز عن الماضي الحاضر وعن وسائله، منطلقة من أن المستحيل هو الممكن الوحيد.