على الرغم من كون سياسة الضغط الأقصى التى اتبعها الرئيس الأميركي دونالد ترمب أدت إلى زيادة توترات منطقة الخليج العربى، سواء من خلال زيادة الاستفزازات الإيرانية في مضيق هرمز أو من خلال دفع الحوثيين إلى إطلاق هجمات على منشآت سعودية، أو من خلال تحلل إيران من التزاماتها بالاتفاق النووي حتى أن كمية اليورانيوم المخصب وصلت إلى 12 ضعف الكمية المفروضة بموجب الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وذلك بحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأخيراً صدور تشريع يلزم الحكومة الإيرانية بالتخلى عن مزيد من الالتزامات، يمكن القول إن هناك من الإيجابيات التي مهدت لها هذه السياسة. فقد أدت سياسة ترمب بما خلقته من تعقيدات قانونية وتشريعية أمام الرئيس الأميركي الجديد جو بادين، إلى جعل مجرد العودة إلى الاتفاق وإلغاء العقوبات أمراً معقداً للغاية، يقتضي فى البداية التزام إيران للامتثال بالاتفاق حتى يمكن العودة، بما يعني أن تضخم العقوبات المفروضة من جانب ترمب هى ورقة الضغط التي يمكن أن تلعب بها الإدارة الأميركية الجديدة للضغط على إيران من أجل العودة مرة أخرى.
والعودة هنا، بحسب بايدن، لن تقتصر على تناول الملف النووي، بل معالجة كثير من القضايا، منها مخزون إيران من الصواريخ الباليستية ومن ثم نقلها لوكلائها وحلفائها في المنطقة، وكذلك معالجة ملف السلوك الإقليمى الإيرانى بما يتضمن التدخل في الصراعات العربية ودعم الحركات من دون الدولة بل مخالفة قرارات مجلس الأمن في ما يتعلق بتسليح بعض الميليشيات في الدول التى تشهد حروباً ممتدة منذ 2011.
الجديد هنا، في اللحظة الراهنة، أن الرغبة في معالجة جميع الملفات كشرط للعودة الأميركية إلى الاتفاق ورفع العقوبات المتخمة لم تعد شرطاً أميركياً فحسب، بل شرطاً للأطراف الأوروبية. فقد تحدث وزير الخارجية الألماني هايكو ماس أن "العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران لا تكفي، ومن مصلحتنا التفاوض مع إيران على اتفاق نووي أوسع"، مؤكداً أن موقفنا من إيران واضح، لا أسلحة نووية ولا صواريخ باليستية تهدد المنطقة. وطالب نواب بريطانيون في تقرير نشر الأربعاء، المملكة المتحدة بقيادة جهد دولي للتوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، مشددين على ضرورة اتخاذ موقف أكثر حزماً من طهران. وترى اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية أن "الاتفاق النووي الذي أبرمته طهران في 2015 مع مجموعة 5+1 (الصين والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا وألمانيا) أصبح بقايا اتفاق ولا يمكن إصلاحه.
فالجديد في الاتفاق المستقبلي ليس على مستوى المضمون فحسب، بل أصبحت جميع الأطراف تؤيد فكرة الاتفاق الأوسع، لا سيما أن سلوك إيران لم يتغير منذ توقيع الاتفاق في 2015 وحتى انسحاب الولايات المتحدة الأميركية منه عام 2018. كما أن كثيراً من البنود المقيدة للأنشطة النووية الإيرانية أوشكت على الانتهاء، بالتالي لا بد من ضمان تقييد تلك الأنشطة في إطار حفظ الأمن الإقليمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك بُعد آخر مؤكد أنه سيطرأ على الاتفاق المستقبلي مع إيران، وهو انضمام دول الخليج العربي التي تعاني من تداعيات السياسة الإيرانية للاتفاق كأطراف مشاركة. وهنا، يجب عدم التركيز على ضرورة إدخال الطرف الإسرائيلي لأنه سيعقد أمر الاتفاق الموسع. فالدول المعنية مباشرة وتتأثر مصالحها وأمنها بالسياسة الإيرانية هي دول الخليج. ونحن هنا بصدد الحديث عن سلوك طهران في منطقة الخليج العربي، ومن ثم يجب عدم التركيز على الحديث عن إسرائيل التي قد تتخذها إيران ذريعة لعدم تدخل أطراف أخرى. فالحديث عن إسرائيل كدولة شرق أوسطية سيعني أنه يجب إدخال دول أخرى كتركيا مثلاً، بالتالي الهدف هنا هو تأمين مصالح دول منطقة الخليج العربي وأمنها.
لذا، يجب أن تكون أولوية بايدن تهدئة الأوضاع في منطقة الخليج وإصلاح التوترات التي أحدثتها سياسة ترمب، وإعادة ضبط العلاقات الأميركية- الإيرانية والإيرانية- الخليجية، مع وجوب الانتباه إلى أنه في الوقت نفسه، لن يؤدي رفع العقوبات واستئناف المفاوضات مع طهران إلى محو العداء بين طهران وواشنطن، ولن يضمن إلغاء "الضغط الأقصى" انخفاضاً كبيراً في التوترات بين إيران ودول الخليج. فإيران دولة تسيطر على إدراك قادتها وتصوراتهم أحلام الهيمنة وممارسة التأثير، وهو إدراك شكلته عقود طويلة من الأحداث التاريخية والحروب. لكن يمكن من خلال التركيز على توافق الأطراف الأميركية والأوروبية وبقية الأطراف في الاتفاق أن يتضمن الاتفاق الجديد آليات تحجيم السلوك الإيراني وتقييده. وربما تكون هذه هي الفرصة لتأسيس نظام أمن إقليمي مترابط وتخفيف الطبيعة الصراعية به.
وهناك جانب آخر مهم يعد ميزة لدى دول الخليج، هو أن إيران المحاصرة التي تعاني من أوضاع اقتصادية متردية فاقمتها سياسة ترمب في حاجة إلى الاتفاق النووي من أجل الاندماج في المجتمع الدولي اقتصادياً وسياسياً. ويمكن هنا التأكيد على أن التعاون الاقتصادي وتحقيق الانفراجة الاقتصادية وتخفيف العزلة الإقليمية لإيران مرتبط أساساً بما سيتضمنه الاتفاق المستقبلي من ملفات إقليمية. أي تخفيف العزلة الإقليمية عن إيران، في مقابل احترام أمن دول الجوار وسلامتها وحقوقها.
وستحتاج دول الخليج إلى تطمينات، وربما ضمانات، من جهات خارجية لها مصلحة في المنطقة- وفي مقدمها الولايات المتحدة- حتى لو لم تأخذ إدارة بايدن القيادة للتفاوض وانتظرت حتى ترتيب أوضاع الإدارة الجديدة.
أما إذا تنازلت إدارة بايدن مقدماً عن ورقة العقوبات التي فرضها ترمب، فلن يكون لدى طهران حافز كبير لمواصلة التفاوض، أي سيكون جديداً من حيث المضمون وقضايا المعالجة والأطراف المشاركة فيه.