"كي جي بي"، و"في إتش كا" أو "لجنة الطوارئ"، وهي ذاتها "اللجنة الاستثنائية"، و"إف إس بي"، و"إس في آر"، كلها تسميات مختلفة لجهاز المخابرات الروسية وأمن الدولة، تباينت من حيث الشكل والجوهر بقدر اختلاف توجهات وتطورات الدولة وتعرجات التاريخ، منذ ظهورها في مثل هذا الوقت قبل 100 عام. ومع كل هذه المسميات، يظل اسم فيليكس دزيرجينسكي مؤسس "لجنة الطوارئ"، مرتبطاً ببداياتها وما طرأ على استراتيجيتها من تغيرات تتناسب وكونها أحد أهم أسلحة وأجهزة ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية عام 1917، الذي اضطلع بالعبء الأكبر في الدفاع عن هذه الثورة بداية على مستوى الداخل، ولاحقاً حين حتمت الظروف والتطورات الجمع بين قطاعي الداخل والخارج.
وكان الرئيس فلاديمير بوتين، ليس فقط بحكم منصبه كرئيس للبلاد وقائد أعلى لقواتها المسلحة، بل أيضاً بحكم انتمائه إلى "جهاز أمن الدولة"، الذي انضم إليه منذ تخرجه في كلية الحقوق بجامعة لينينغراد 1975، وتدرج بين صفوفه حتى رتبة "عقيد"، زار مقرّ جهاز "إف إس بي" أحد قطاعي جهاز أمن الدولة بعد تقسيمه قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي السابق إلى قطاعين، أحدهما للأمن والمخابرات في الداخل "إف إس بي"، و"إس إف إر" للمخابرات الخارجية، وذلك لوضع إكليل من الزهور عند النصب التذكاري لضحايا جهاز المخابرات الروسية، بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس جهاز "كي جي بي".
وبهذه المناسبة حرص بوتين على إلقاء كلمة أوجز فيها رؤيته لمهمتا أجهزة المخابرات وأهميتها في مثل هذه الظروف التي تمر بها روسيا في الآونة الراهنة، مؤكداً ضرورة اضطلاع هيئات ومؤسسات الأمن والمخابرات بما عُهد إليها من مهمات مكافحة الإرهاب والتطرف والفساد، إلى جانب تطوير ما تحقق من نجاح على صعيد مكافحة التجسس.
وكشف عما وصفه "بالعمليات المعقدة التي تم تنفيذها بنجاح"، كما أعرب عن شديد تقديره لها، من دون الإفصاح عن أية تفاصيل.
بوتين عقيد المخابرات
ولم يغفل الرئيس الروسي الإشارة إلى ما دأب على التشديد عليه، وهو ضرورة التصدي لمحاولات إعادة كتابة التاريخ وتشويه دور الاتحاد السوفياتي في هزيمة النازية. ونذكر بهذا الصدد ما قاله في مستهل حياته "المدنية" وكان نائباً لعمدة سان بطرسبورغ، حين أوكل إليه عمدة المدينة أناتولي سوبتشاك مهمة مرافقة هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية ومساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي الأسبق، لدى زيارته للمدينة في تسعينيات القرن الماضي. قال بوتين إن كيسنجر ألحّ في تساؤلاته آنذاك لمعرفة مهنته السابقة قبل الانضمام إلى فريق عمدة المدينة، وهو ما اضطره إلى الاعتراف بأنه كان عقيداً في المخابرات الروسية. ومضى بوتين ليعترف بأنه فوجئ بتعليق كيسنجر الذي قال فيه، "إنه كان أيضاً ذات يوم على ارتباط بأجهزة المخابرات". وأضاف، "ضابط المخابرات لا يتقاعد".
وعودة إلى "كي جي بي"، ننقل عن الوثائق ما سجلته في شأن أن "لجنة الطوارئ لعموم روسيا" تأسست في السابع من ديسمبر (كانون الأول) 1917، أي بعد أقل من شهرين من قيام ثورة أكتوبر، كواحدة من أولى وأهم هيئات "السلطة السوفياتية، أو ما كانت تسمى "ديكتاتورية البروليتاريا" للدفاع عن الثورة. ولم يكن نشاط هذه اللجنة يقتصر على مهمة الدفاع عن الثورة، ليتجاوز ذلك اعتباراً من عام 1921 إلى مكافحة التخريب والتصدي لانتشار ظاهرة الأطفال المشردين، أو كما يقال "أطفال الشوارع". وأوكل لينين زعيم ثورة أكتوبر هذه المهمة إلى فيليكس دزيرجينسكي البولندي الأصل، الذي كانوا يسمونه "الرجل الحديدي".
ويذكر المراقبون أن اسم هذه اللجنة وحده كان كافياً لإثارة الرعب والفزع في النفوس، وهي التي كانت تملك الحق في إطلاق النار، وقتل من تعتبره من أعداء الثورة، من دون تحقيق أو محاكمة بموجب مرسوم "الوطن في خطر" اعتباراً من فبراير (شباط) عام 1918. غير أن الوقت لم يستمر طويلاً حتى جرى إعادة تشكيل هذا الجهاز "الرهيب" عام 1923، تحت راية هيئة أخرى اختاروا لها اسم "إدارة القلم السياسي للدولة"، "أو جي بي أو"، تحت رئاسة دزيرجينسكي وحتى وفاته عام 1926.
ومن اللافت أن نشاط جهاز أمن الدولة أياً كان الاسم الذي يحمله، لم يقتصر منذ بداية سنوات تأسيسه على نشاط مخابراتي أو أمنى، نظراً إلى ما كان يتهدد الثورة من أخطار أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية. ومن هنا تحول القائمون عليه إلى تنويع نشاط الجهاز وتوسيع أطر مهماته وتوجهاته، لتشمل إلى جانب مكافحة أخطار الثورة المضادة على الصعيد الأمني، مجالات تأمين السكك الحديد والنقل النهري، وحماية الحدود ونشاط التهريب، وتنفيذ ما يوكل إليه من مهمات من جانب قيادات الدولة والحكومة، بما كان يعنى اضطلاعه بمهمات أجهزة "الميليشيا" (الشرطة) والنيابة ومكافحة الجرائم.
وقد ظل الأمر على هذا المنوال حتى العام 1934، تاريخ تأسيس "مفوضية الشعب للشئون الداخلية للاتحاد السوفياتي"، أو "وزارة الداخلية السوفياتية"، التي انضوت تحت رايتها كل التنظيمات السابقة التي كانت تتولى شؤون الأمن والمخابرات ومكافحة الجريمة وتأمين الطرق والمواصلات ومؤسسات الدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حملات قمع وتنكيل
ولعل إعادة تشكيل أجهزة الأمن، ومحاولة ضمها في جهاز واحد متعدد الصلاحيات والتوجهات والمهمات، كان يعني في طياته الاستعداد لمسارات جديدة على طريق بناء الدولة السوفياتية بموجب رؤية خاصة تعتمد الأمن و"إرهاب المواطنين" أساساً لإدارة البلاد التي كانت في سبيلها إلى الانتهاء مما انتهت إليه، من حيث اكتمال البنية الرئيسة للدولة المترامية الأطراف المتعددة القوميات، بعد الانتهاء من تصفية حسابات "البلاشفة" مع خصومهم في الداخل، والانصراف إلى تأمين علاقاتها الخارجية. وذلك ما تبدى في ما شهده الاتحاد السوفياتي من حملات قمع وتنكيل، والزج بخصومه السياسيين وغير السياسيين من ممثلي الأوساط الثقافية والعلمية، ممن راحوا يسمونهم بـ "أعداء الشعب"، إلى غياهب السجون في مجاهل سيبيريا من دون محاكمة أو تحقيق قبل العام 1937 وما بعده.
ومع هذه التحولات الجديدة، ظهرت أسماء جينريخ ياجودا، ونيكولاي يجوف، ولافرينتي بيريا التي كانت كافية وحدها خلال الفترة 1934 -1954 لإثارة الرعب والخوف الهائل في نفوس المواطنين أياً كانت انتماءاتهم أو مواطنهم أو قومياتهم.
وكانت القيادة السوفياتية أعلنت عن تقسيم مفوضية الشعب للداخلية لأسباب تعود إلى تباين الأعباء بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وما اقتضته ظروف الحرب من تغيير في المهمات. واعتباراً من فبراير (شباط) 1941 فرضت التقسيم إلى قطاعين، أولهما "مفوضية الشعب للداخلية"، وثانيهما "مفوضية الشعب لشؤون أمن الدولة" (إن كي جي بي). وتولت مفوضية أمن الدولة الإشراف على عمليات الاستخبارات في الخارج، ومكافحة التجسس والنشاط الإرهابي من جانب المخابرات الأجنبية في الداخل، إلى جانب تصفية فلول الفصائل والجماعات المعادية للاتحاد السوفياتي وعملائها من الخلايا النائمة بين صفوف العاملين في قطاعات الصناعة والزراعة والنقل والمواصلات والاتصالات، فضلاً عن تأمين وحماية أعضاء المكتب السياسي وكبار القيادات الحزبية والحكومية. لكن ما إن بدأ الغزو الهتلري للأراضي السوفياتية في 22 يونيو (حزيران) 1941، حتى عادت القيادة السوفياتية إلى اتخاذ قرار الجمع بين الهيئتين، "مفوضية الداخلية" و"هيئة أمن الدولة"، في جهاز واحد في الرابع من يوليو (تموز) من العام نفسه. لكنها سرعان ما عادت تحت وطأة الحاجة إلى المعلومات، ومواجهة متغيرات الموقف مع بدء تغلغل القوات الهتلرية داخل الأراضي السوفياتية، لتتخذ قرارها في أبريل (نيسان) 1941 بإعادة فصل "كي جي بي"، واعتبارها هيئة مستقلة مدعوة إلى تكثيف نشاطها فيما وراء خطوط العدو، وليتنامى نشاطها مع نجاح القوات السوفياتية في تحرير ما احتلته القوات النازية من أراضي الأولى، وتحولها إلى مواصلة معاركها وانتصاراتها في أراضي بلدان شرق أوروبا. وتقديراً لما قامت به هذه الهيئة من إنجازات وما حققته من نجاحات خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، قامت القيادة السوفياتية برفع وضعية هيئة أمن الدولة إلى مستوى "المفوضية"، ليجري تسميتها في العام 1946 "وزارة أمن الدولة للاتحاد السوفياتي" (إم جي بي)، التي تحولت إليها خلال الفترة 1947 - 1952 مهمات الإشراف على قوات الأمن الداخلي والميليشيات (الشرطة) وحرس الحدود وقوات المطافئ والحراسات الخاصة والاتصالات.
قرارات خروشوف "الإصلاحية"
ولم تتوقف التغييرات عند هذا الحد، إذ سرعان ما اتخذ نيكيتا خروشوف بعد وفاة يوسف ستالين في عام 1953 قراره بإطاحة لافرينتي بيريا وزير الداخلية والمسؤول عن جهاز الأمن وإعدامه، معلناً كثيراً من القرارات "الإصلاحية" التي شملت إعادة النظر في كثير من قرارات وزارة أمن الدولة، والإفراج عن الألوف من المواطنين الذي جرى الزج بهم في السجون من دون ذنب اقترفوه، فضلاً عن إعادة شعوب القوقاز الذين جرى تهجيرهم قسراً إلى مجاهل سيبيريا، وسهوب قزخستان بتهمة التواطؤ مع قوات الغزو الهتلري في مطلع سنوات الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من مضي ما يزيد على 100 عام منذ بداية تأسيس جهاز المخابرات الروسية وتغير التسميات والمسميات، وتعدد وتغير قياداته ورؤسائه منذ ذلك التاريخ، يظل اسم فيليكس دزيرجينسكي الأشهر بين رؤساء الجهاز، لصيقاً به محتفظاً بغموضه الذي طالما أثار الرعب في النفوس، وتطايرت حوله مختلف الشائعات، وتباينت بين الحقيقة والخيال.
ونذكر أن هذا الجهاز وعلى الرغم مما أصابه من ارتباك كاد يفضى به إلى الاندثار مع نهاية سنوات الاتحاد السوفياتي قبل انهياره، وتعرضه لكثير من التغييرات والانتقادات التي بلغت حد تعرضه لهجمات المتظاهرين الذين اقتلعوا تمثال دزيرجينسكي من موقعه أمام مقره المركزي في قلب العاصمة، تنكيلاً به وبتاريخه، واحتجاجاً على انقلاب أغسطس (آب) 1991. وإن كانت السلطات الرسمية سرعان ما أعادت إلى دزيرجينسكي ومعه جهاز أمن الدولة وتاريخه، وقاره ومكانته، بعد أن أحسن الرئيس الأسبق بوريس يلتسين اختيار من عهد إليه بمهمة إعادة تشكيل الجهاز وقيادته، وكان ذلك على يدي الأكاديمي يفجيني بريماكوف الذي تولى قيادة جهاز المخابرات الخارجية، قبل انتقاله إلى منصب وزير الخارجية في عام 1996، ومنه إلى رئاسة الحكومة الروسية في 1998.