في بلدان المشرق العربي كما في بلدان شمال أفريقيا، هناك سوقان من أهم أسواق المعرفة والفنون، يمكن الاستثمار فيهما بشكل استثنائي، لكنهما مهمشتان بشكل صارخ، وهما سوق الترجمة وسوق الفنون الجميلة.
فلا يزال، وبشكل عام، اقتصاد الثقافة والمعرفة والفنون مغيّباً عن دورة الاقتصاد العامة في بلداننا، ولا يزال يُنظر إلى سوق المعرفة بعين الاستصغار، على أنها سوق غير مربحة، بل هي سوق كاسدة وخاسرة، والثقافة في ذهنية العربي والشمال أفريقي هي مجال للمشاع والتبرع وليس للربح والكسب، والمجتمعات التي لا يسود فيها رأسمال للثقافة والفنون وتبادل تجاري في المعرفة هي مجتمعات متخلّفة، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي أيضاً، لأن الاقتصاد هو حس حضاري قبل أن يكون مكسباً مادياً فقط، والبورجوازية الأوروبية والفرنسية بشكل خاص هي التي رافقت نشوء الأدب والسينما والفن التشكيلي والمسرح والموسيقى.
فالأفكار ليست "ملقاة على الرصيف"، كما يحلو لبعضهم من عندنا ترديد هذه العبارة، ونقلها من جيل إلى جيل من دون تمحيص، الأفكار الكبيرة كنوز وهي موجودة في البنوك وفي المخابر وفي البرامج والتطبيقات وفي كتب الإبداع الكبرى التي تدر الملايين على المؤسسات التي تتولاها.
قد تكون السينما هي الفن الوحيد الذي تم الاستثمار فيه عندنا، إلى حد ما، إذ إن الشباك في بعض الدول، استطاع أن يفنّد خوف المستثمرين الذين يترددون أو يستخفون بوضع أموالهم في مثل هذه المغامرة الاقتصادية، مع ذلك فالاستثمار حتى في السينما لا يزال خجولاً، ولا تزال السينما غير مؤهلة للمنافسة الدولية أمام إنتاج عالمي يقف وراءه رأسمال مدهش وذكي.
وفي العالم المتقدم، يصرف على إنتاج بعض الأفلام الأميركية أو الأوروبية، والآن الصينية أيضاً، مئات الملايين من الدولارات، ويقبض بعض الممثلين مقابل أدوار يؤدونها عشرات الملايين من الدولارات، بل أكثر، وتعرف سوق السينما صراعاً حاداً بين مدارس كثيرة وكل واحدة تريد أن تستولي على الشباك التقليدي أو الرقمي، وبات بعض الممثلين جزءًا من البورصة العالمية.
الترجمة: الاستثمار المضمون
أما سوق الترجمة في بلداننا، فهي غائبة تماماً أو تكاد، ويعود ضعفها إلى عاملين أساسيين، أولهما: ضعف تعليم اللغات الأجنبية في الجامعات العربية وفي بلدان شمال أفريقيا، حيث هناك عداء خفي للإقبال على تعليم اللغات من قبل بعض الأنظمة السياسية، التي تخشى إما على اللغة العربية أو لأنها تخاف من أن تتحول هذه اللغات إلى نوافذ للتفتح على العالم، بالتالي قد تزعج هذه الحال أيديولوجياتها المحافظة دينياً أو وطنياً شوفينياً، وظاهرة تقهقر تعليم اللغات في جامعات ومعاهد العالم العربي وشمال أفريقيا ظاهرة متفشية، ونعتقد بأن لا نمواً في غياب جيل يدرك اللغات الأجنبية الكبرى، يكتب بها، يدرس بها، يبحث بها، يتعامل بها، يسافر بها، وهذا الضعف بادٍ في الجيل الجديد، الذي فقد حتى التحكم بلغته الأصلية، لغته الوطنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الجزائر، على سبيل المثال، حوَّل الجزائريون واقعاً لغوياً تاريخياً مهماً، من مكسب لغوي إلى مشكل سياسي، فاللغة الفرنسية التي هي غنيمة ثورة التحرير، والتي استعملها الوطنيون الجزائريون في حربهم ضد الاستعمار الفرنسي نفسه، وإلى عهد قريب كان الجزائريون يتحكمون فيها بشكل متميز، تحوّلت مع المد السياسي الإخواني والعروبي-البعثي إلى قضية سياسية، بل إلى مشكل سياسي، بالتالي فقد الجزائريون من الجيل الجديد التحكم في هذه اللغة التي كانت نافذة أخرى على العالم وفقدوا معها التحكم حتى في العربية التي ضعف مستواها بشكل واضح. إننا نعتقد بأنه كلما تم تعليم اللغة الوطنية إلى جانب اللغات الأجنبية، فإن التعليم يكون متوازناً.
أما العامل الثاني في ضعف الاستثمار في سوق اقتصاد الترجمة، فهو عائد إلى غياب قوانين تشريعية ناظمة لهذه السوق، فالترجمة في العالم العربي تعرف فوضى كبيرة لا يمكن الرهان على سلامة الاستثمار فيها من قبل المتعاملين الاقتصاديين.
وقد انتبه الذكاء الاقتصادي الأوروبي والأميركي إلى سوق الترجمة، حيث يصل الرأسمال الموظف في هذه السوق إلى مليارات الدولارات، والفوائد التي يجنيها مستثمرو المعرفة في الترجمة تعدّ أيضاً بالمليارات، وتُشَغِّلُ هذه السوق المستقبلية الواعدة والمفتوحة مئات الآلاف من الموظفين في كل التخصصات المرتبطة مباشرة بفعل الترجمة (من لغة إلى أخرى)، من الترجمة الكلاسيكية إلى الترجمة الرقمية إلى الترجمة الفورية إلى الترجمة الرمزية إلى الترجمة البرامجية... إضافة إلى مئات الآلاف من المهندسين والتقنيين والمصممين الذين يؤطرون أو يطورون الجانب التقني والتكنولوجي والجمالي للترجمة ووسائطها المتعددة من الكتاب التقليدي، مروراً باللوحة الإلكترونية إلى اللوحة القارئة إلى الأجهزة الإلكترونية المختلفة.
وإذا كانت المنظمة العالمية "يونيسكو" قد أحصت ما يزيد على 6000 لغة، فهذا يعني أن مستقبل الاستثمار في الترجمة مضمون وسوقها واعدة.
الفن التشكيلي وغياب ذوق البورجوازية المحلية
أما ثاني الأسواق التي تبدو غريبة عن العالم العربي وشمال أفريقيا، فهي سوق الفنون التشكيلية، فما زالت الغاليريهات (قاعات عرض الفن التشكيلي) نادرة جداً، وزياراتها لا تكون إلا من قبل حفنة صغيرة في المجتمع، وشراء اللوحات وتقييمها غير واضح المعالم والأثمان، ويحتاج هذا الفضاء إلى خبراء أكفاء لمرافقة الفن التشكيلي بوصفه سلعة من نوع آخر.
ولا يزال المواطن لا يملك الثقافة العينية التشكيلية المطلوبة للتعامل مع الفن التشكيلي، فهو يختار اللوحة لتزويق جدار لا للاستمتاع بفلسفة اللوحة. وتبدو ثقافة الفنون التشكيلية مغيّبة أيضاً بسبب عامل السلفية الدينية التي لا تزال تعتقد أن الفن التجسيمي حرام، ما يجعل المجتمع يتعامل بحذر وتردد وخوف وتحفظ حيال الفن التشكيلي، وتبدو مدارس الفنون التشكيلية مغيّبة أو مهمشة في كثير من الدول العربية، ولا يعطى هذا التعليم حقه المطلوب، مع العلم أن سوق الفن التشكيلي على مستوى العالم هي واحدة من أهم الأسواق الضامنة والمضمونة منذ قرون ولا تزال في وهجها.
حتى أسماؤنا التشكيلية الكبيرة كلها لا يتم الاعتراف بقيمة توقيعها إلا بعد أن تحصل على رخصة من غاليريهات عالمية في أوروبا أو أميركا أو اليابان، فالأسماء التشكيلية العربية والشمال أفريقية المعروفة هي تلك التي تقتني لوحاتها كبريات المتاحف وكبار أرباب المحافظين التشكيليين.