على مدار مئة عام كانت خشبة المسرح القومي بالقاهرة ملتقى لفنانين ورموز مصريين وعرب، وجسراً يعبر بأعمال فكرية عظيمة إلى الجمهور، ليمثل سفيراً للفن المصري وقوتها الناعمة. وعلى خشبته عُرضت حكايات تحمل هموم المواطن العربي وتعكس واقعه وحياته، جنباً إلى جنب مع روايات عالمية قدمت بشكل مبسط إلى الجمهور.
ولم يكن المسرح القومي مقراً للعروض المهمة فقط، منها لكبار الكتاب العالميين، أمثال شكسبير وتشيخوف وبرخت، وكذلك الأعمال المصرية التي تناقش قضايا المجتمع لكتّاب معاصرين، إنما شهدت خشبته واحدة من أهم الأحداث الفنية في مصر، وهي حفلات كوكب الشرق أم كلثوم التي كانت تحييها في الخميس الأول من كل شهر، لتشدو بألحان وكلمات كبار الموسيقيين والشعراء، في احتفالية تنتظرها البيوت المصرية.
كيف أنشئ المسرح القومي في مصر منذ مئة عام، وما قصة موقعه الحالي، تحديداً منطقة الأزبكية التي تعرف بميدان العتبة، وما أهم الأعمال التي شهدها، وماذا عن واقعه الآن، وهل من مستقبل مشرق ينتظره؟ هذه الأسئلة نجيب عنها في التقرير التالي.
رمز للثقافة الشعبية والوطنية
يقول الكاتب المسرحي محمد أبو العلا السلاموني، "هو ليس مجرد مبنى أو فرقة. إنه رمز للثقافة الشعبية والوطنية المتراكمة عبر تاريخ طويل في منطقة الأزبكية التي تعتبر قلب القاهرة، المرتبطة بفنون شعبية شتى مثل الساحر والأراجوز وخيال الظل والحكواتي والسير الشعبية. كان فيضان النيل يفيض فيها، ويكوّن بركة تجوب فيها قوارب النزهة، وعلى ضفاف هذه البحيرة أنشأ نابليون بونابرت مسرح (التيفولي)، الذي يعد الأقدم في الشرق الأوسط ليُهدم بعدها، ويقام في المكان نفسه مسرح الأزبكية بأمر الخديو إسماعيل عام 1869 ويجمع في عروضه بين الفرق الأجنبية والمصرية من المحترفين والهواة".
ويضيف، "هُدم المبنى أيضاً مع الزمن وبُني في نفس موقعه المسرح الحالي الذي افتتح عام 1920. صممه المهندس الإيطالي فيروتشي مدير عام المباني السلطانية آنذاك مشابهاً لدار الأوبرا الخديوية على شكل حدوة الفرس، وفي وسطه قبة بأسلوب المعمار العربي الأصيل الذي يرجع الفضل في إضفائه إلى الرائد الاقتصادي طلعت حرب، الذي أصر على أن يكون المبنى نموذجاً للعمارة العربية، وأمر بكتابة بيت الشعر لأحمد شوقي (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا)، وعبارة (المسرح حياة) في سقف المبنى من الداخل".
أزمة المسرح
ويتابع السلاموني، "افتُتح المسرح بأوبريت تحت اسم (هدى) لفرقة أولاد عكاشة، لكن مع الأسف تحوّل بعدها لدار عرض سينمائية فترة، لتعود إليه الحياة من جديد مسرحاً مع تشكيل الفرقة القومية عام 1935، وتقدم أول عروضها عن رواية (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم، لتفشل جماهيرياً، وتختلف الآراء النقدية حولها، وهو ما شكّل أزمة للحكيم، جعلته يلجأ إلى برجه العاجي، ويعلن أنه لا يؤلف مسرحيات جماهيرية للعرض، إنما ذهنية للقراءة والتفكّر. وعلق الناقد علي الراعي وقتها قائلاً (توفيق قتل في نفسه المهرج الشعبي، ووضع مكانه المفكر البارد الفكر والحس معاً)".
ويستكمل، "الحقيقة، أزمة الحكيم هي نفس أزمة المسرح عموماً، خصوصاً أنه نشأ شعبياً وجماهيرياً في منطقة الأزبكية، التي كانت تضج بفنون تحمل التراث الشعبي وتمس الغالبية العظمى من الشعب المصري، وما كان يجب أن يهجرها هذا الاتجاه من الفن كما هجر الحكيم كتاباته الأولى. من هنا ظهرت كل الإحباطات والنكسات التي أصابت المسرح، وهي البعد عن الهوية الشعبية والاعتماد على نصوص أجنبية مترجمة واختيار نصوص جافة ولغة صعبة على الجمهور".
الستينيات والصحوة الفنية
يجمع كثير من النقاد أن فترة الستينيات شكّلت صحوة فنية للمسرح المصري بنصوص ثرية اقتربت من هموم المواطن العادي. وعن ذلك يقول السلاموني، "استعاد المسرح هُويته بعد ثورة يوليو (تموز) 1952، إذ اعتُمد على نصوص مؤلفين مصريين، مثل نعمان عاشور وألفريد فرج وسعد الدين وهبة ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور، لتشهد الستينيات مجد المسرح المصري سواء من ناحية النصوص أو التمثيل والإخراج، حيث عبر الكتّاب عن التراث المصري وتاريخه ونضاله الوطني والاجتماعي، وكذلك عن هوية مصر وتاريخها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويواصل، "بدأ في هذه الفترة ظهور نصوص بالعامية المصرية نثراً وشعراً، لتمثل عودة الروح للمسرح المصري بعد أزمته التي بدأت مع (أهل الكهف)، وليعود الحكيم من برجه العاجي بنصوص مثل (شهرزاد) و(يا طالع الشجرة) و(صندوق الدنيا)، ويُفتح الطريق أمام أجيال جديدة من الكتّاب والمؤلفين والنقاد".
الهم العربي
تقاليد وأصول المسرح القومي والعاملين فيه تمثل دستوراً غير مكتوب تتناقله الأجيال وتتوارثه، باعتباره نهجاً أساسياً، فالجدية والانضباط هما سمة فنانيه وعامليه وحتى جمهوره. يقول الرئيس السابق للمسرح القومي محمود الحديني، "الاحترام والالتزام والعطاء بسخاء من الأجيال الأقدم للأحدث هي أساس المسرح، والفنان الذي يبدأ حياته مسرحياً يعتاد على هذه التقاليد في عمله بعد ذلك داخله وخارجه. في أحد أفلامي مع الفنانة فاتن حمامة، كانت تنتظرني حتى ينتهي موعد البروفات، لنبدأ التصوير لإيمانها بفكرة الالتزام وأهمية وقيمة المسرح".
ويضيف، "كان المسرح القومي ولا يزال صرحاً ثقافياً له دور رئيس في تفجير طاقات الإبداع في مصر ما بين التأليف والتمثيل والإخراج. كما كان أحياناً ما يستقدم مخرجين عالميين، وهو ما مثّل تجربة ثرية للعاملين فيه وشكّل فرصة للاحتكاك بمدارس فنية متنوعة. وعموماً أعتبر فترة رئاستي المسرح تتويجاً لمسيرتي".
ويتابع، "خشبة المسرح دائماً ما كانت تعبر عن الهم العربي في موضوعاتها، وكان أول أعمالي مسرحية (مأساة جميلة) تأليف عبد الرحمن الشرقاوي، وإخراج حمدي غيث، عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد. كما قدمت (النار والزيتون) التي تتناول القضية الفلسطينية، تأليف ألفريد فرج وإخراج سعد أردش، وكثير من الأعمال عكست القضايا العربية الكبرى. هذا هو أحد الأدوار المنوط بالفن أن يقدمها، وهو أن يعكس هموم الناس وقضاياهم".
واقع المسرح القومي
وعن واقع المسرح القومي حالياً وخططه المستقبلية يقول إيهاب فهمي، مدير المسرح القومي، "ما يميز الكيان ويمثل قوته الأساسية على مدار السنوات هو تنوع العروض المقدمة، لتناسب كل الأذواق، وإن كان ما يجمعها هو أنها تناقش قضايا وموضوعات تهم المواطن المصري. وحالياً يُعرض عمل يحكي قصة شهيد، وهو بالطبع موضوع يخص كل المصريين".
ويضيف، "بالطبع، ظروف كورونا أثرت على كل شيء. لكن لدينا موسماً كبيراً مع بداية العام المقبل سيشهد إعادة تقديم أفضل وأشهر الأعمال التي قدمت على مدار مئة عام، احتفالاً بالمئوية. وستكون ملتقى لكبار النجوم في مصر بعضها سيُقدم بنجومه الأصليين والأعمال القديمة سيُعاد تقديمها بنجوم آخرين ورؤية جديدة، كما سنكرّم رموز المسرح القومي الذين أسهموا في بقائه رمزاً للفن الراقي في مصر والعالم العربي".