في مايو (أيار) الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب من حديقة الورود بالبيت الأبيض، تعيين منصف السلاوي، ذي الأصول المغربية، على رأس لجنة لتطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا بحلول نهاية عام 2020، وجاءت إطلالة الرئيس الجمهوري، ذلك الصيف، بمثابة نفحة أمل للبلاد التي خرج فيها وباء "كوفيد-19" عن السيطرة، مخلفاً خسائر بشرية واقتصادية لا مثيل لها في تاريخ الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، أثار خروجه تساؤلات وشكوكاً في شأن قدرة إدارته بالوفاء بوعودها، إذا أخذنا بالاعتبار أن مرضاً معدياً كالحصبة لم يتم التوصل إلى لقاحه إلا بعد 10 سنوات من الجهد المضني.
وأثارت لهجة الخطاب المتفائلة علامات استفهام مدفوعة بالرسائل المتشائمة التي تبعثها منظمة الصحة العالمية من حين لآخر، بينما راح كبير متخصصي الأمراض المعدية في الولايات المتحدة، أنتوني فاوتشي، وهو الذي عرف بتصريحاته الواقعية المزعجة لترمب في كثير من الأحيان، ليؤكد أن الحصول على لقاح قد يستغرق عاماً ونصف العام على الأقل، لكن هذا التصريح، على الرغم من طبيعته المتحفظة، قوبل برفض من مجتمع الصحة العامة، باعتباره ضرباً من الخيال، حتى إن بول أوفيت، أحد مكتشفي لقاح الفيروس العجلي، اعتبر حديث فاوتشي متفائلاً إلى حد السخرية.
لكن العالم خالف الأطروحات المتشائمة قبل انقضاء عام 2020، واستطاع تحويل الجملة الدارجة "الضوء في آخر النفق"، إلى واقع ملموس تمثل في بدء توزيع اللقاح المضاد لفيروس كورونا في بلدان عديدة، وكانت البداية مع لقاحات روسية وصينية اقتصر توزيع بعضها على السكان المحليين، ولم تأخذ نصيباً واسعاً من الانتشار عالمياً، ومن ثم لقاح "فايزر بيونتيك" الذي بدأ تلقيه في بريطانيا والولايات المتحدة، وأخيراً لقاح "موديرنا" الذي نال ترخيص الاستخدام الطارئ من السلطات الأميركية، قبل أكثر من أسبوع، ليعزز آمال تطعيم أكبر عدد ممكن من السكان.
لمن نقدم امتناننا؟
وبعد الإنجاز الذي تحقق في وقت قياسي بضخ ملايين الجرعات من اللقاح، تحاول بعض الأطراف نسب التفوق إلى نفسها، في مشهد تصفه مقولة الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي "الانتصار له ألف والد، أما الهزيمة فطفل يتيم".
اليوم واجبنا كأفراد، حين نتوجه إلى مركز تلقي اللقاحات، تحديد من هو الأحق بالامتنان، هل هم المهاجرون الذين صنعوا الفارق في شركات "موديرنا" و"فايزر" و"بيونتيك"؟ أم الجامعات ومختبراتها الطبية المتقدمة؟ أم مبادرات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية لتوحيد الجهود الدولية؟ أم إن علينا توجيه الشكر إلى الرئيس ترمب نظير جهوده في تسريع عملية إيجاد اللقاح من خلال الحد من البيروقراطية في مفاصل الحكومة الفيدرالية؟
"من أتاح اللقاح؟"
في مقالة بعنوان "من أتاح اللقاح؟ ليست منظمة الصحة العالمية"، يرفض أستاذ العلوم السياسية الأميركي غراهام آليسون، نسب الفضل في اكتشاف اللقاحات المضادة للوباء إلى منظمة الصحة العالمية، كما أنه لا يقتصر الإنجاز التاريخي على جهود المؤسسات والجهات المانحة، بما فيها الاتحاد الذي تقوده مؤسسة غيتس لتمويل تطوير اللقاحات، ولا على دور كليات الطب والصحة العامة، وعشرات الآلاف من علماء الأوبئة والفيروسات، أو حتى الشركات الخاصة مثل "فايزر" و"بيونتيك" و"موديرنا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول آليسون "عديد ممن ورد ذكرهم أعلاه سيدعون أنهم ساهموا في هذا النجاح، ولكن إذا كانت هذه محكمة تحدد المسؤولية عن الضرر المترتب عن دواء ما، عوض تقديم امتنان عام، فمن سيتحمل المسؤولية الأكبر؟". ويضيف متسائلاً "لو قامت كل هذه الأطراف، ومنها عملية ( Warp Speed ) التي أطلقها ترمب لتسريع تطوير اللقاحات، بكل واجباتها، عدا طرف واحد، فما احتمال أن تكون اللقاحات متوفرة اليوم؟".
ويضيف "الجواب بقدر وضوحه، فإنه غير مريح لبعض القراء. لو لم تقم منظمة الصحة العالمية ومؤسسة غيتس بأي دور، لما كان هناك إلا اختلاف بسيط في توافر اللقاح، كما أنه لو كانت جميع الإدارات والوكالات في الحكومة الأميركية تعمل في وضع الطيار الآلي لما حدث هذا التطور المعجزة". وتابع أن "هذه البيروقراطية التي تشمل مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، وإدارة الغذاء والدواء، ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية، حدت من توفير اختبار كورونا في الولايات المتحدة لأشهر عدة مقارنة بالاستجابة الأسرع في كوريا الجنوبية وسنغافورة".
ويواصل آليسون في مقالته المنشورة في صحيفة "وول ستريت جورنال": "تدعي الجامعات، وهي محقة، أنها بنت أسس المعرفة التي من دونها لا يمكن للباحثين الآخرين تحديد التسلسل الجينومي للفيروس، أو تطوير أنظمة مرسال الحمض النووي الريبي الضرورية للقاحي (فايزر) و(موديرنا)، لكن مع الحفاظ على قاعدة المعرفة السابقة الخاصة بـ(كوفيد-19) نفسها، كان من الممكن أن ينام هؤلاء الباحثون الأكاديميون أثناء الوباء من دون أن يشكل غيابهم فارقاً كبيراً".
وبالنسبة للأكاديمي في جامعة هارفارد، هناك سببان رئيسان وراء النجاح في اكتشاف لقاح كورونا، الأول هو النظام الرأسمالي الذي سهل المنافسة بين شركات التكنولوجيا الحيوية الخاصة الساعية للربح وشركات الأدوية التي تهدف إلى تصنيع منتج يسهم في الحفاظ على حياة الناس، وبخلاف المؤسسات الخيرية والجامعات والوكالات الحكومية التي تريد فعل الخير، فإن ما يجمع شركات مثل "بيونتيك" الألمانية، و"موديرنا" الأميركية، بالإضافة إلى عملاق الأدوية "فايزر"، هو سباق محموم للتربح.
ومن دون أصحاب رؤوس أموال مستعدين للاستثمار، ومن دون قيادة مؤسسية على استعداد لمضاعفة أموال الشركات الخاصة في الربيع لتمويل إنتاج ملايين الجرعات بحلول نهاية العام، لما كان الوصول إلى اللقاح ممكناً، بالإضافة إلى دور الباحثين ومغامرتهم في اعتماد تقنية غير مسبوقة لتصنيع اللقاحات باستخدام الحمض النووي الريبي.
السبب الثاني
أما السبب الثاني، فهو عملية "Warp Speed"، التي تنسق استراتيجية الحكومة الفيدرالية في شأن اللقاح. ويقول آليسون إن "ترمب لو لم ينشئ المبادرة، ويعين على رأسها عالم تطوير اللقاحات منصف السلاوي، ويمنحه ترخيصاً لإنفاق 10 مليارات دولار خارج إجراءات التعاقد العادية، فإن التوصل إلى لقاحات كورونا كان سيتأخر، وحتى بعد الموافقة النهائية عليها، كان من الممكن أن يتأخر توزيعها لفترة طويلة". أضاف "تخيل عالماً لم يعين فيه السيد ترمب نائباً لرئيس العملية جنرالاً على دراية بالخدمات اللوجستية ولديه سلطة كتابة عقود مع (FedEx) و(UPS)، وهما شركتا نقل لحجز مساحة على متن طائراتهما، وفي شبكة مراكز التوزيع الخاصة بهما."
ويختم آليسون مقالته التي حظيت بمشاركة منصف السلاوي على صفحته الرسمية في شبكة "لينكد إن" بالقول "بينما يتطلع الأميركيون الآن إلى تلقي التطعيم واستئناف حياتهم الطبيعية، يجب التوقف لتقديم الشكر لمجموعة رائعة من العلماء ورجال الأعمال الذين حفزهم دافعهم التنافسي الذي تغذيه الرأسمالية إلى المغامرة في المجهول من أجل الثروة والشهرة، بالإضافة إلى رئيس غير مثالي، مختل وظيفياً في كثير من الأحيان، أبلى بلاءً حسناً بهذا الشأن."