من العادات السودانية التي اكتسبت غرابة، نتيجة مزجها بين الطب والظواهر الأنثروبولوجية، "الشلوخ" أو "الوسم" التي ظهرت منذ عصر ما قبل الميلاد لأغراض علاجية، وتصنيف كل قبيلة عن الأخرى، ووظيفة جمالية خاصة بالمرأة.
وعلى الرغم من اندثارها النسبي لدى قبائل شمال السودان، إلا أنها استمرت في جنوبه وبعض قبائل دارفور في الغرب عبر الزمن، ترافقها بعض الطقوس الخاصة عند بعض القبائل، لكنها ارتبطت بصورة أهل السودان عند الرحالة مثل ابن بطوطة، إذ ارتسمت البلاد في أذهانهم وفق تصنيفهم المعني بدرس الجوانب البشرية، وأُعيدت وفقاً لذلك كجزء من الصورة الكلية للأفارقة.
بداية ظهور
يؤكد البروفيسور يوسف فضل في كتابه "الشلوخ: أصلها ووظيفتها في سودان وادي النيل الأوسط"، أن "الشلوخ في وادي النيل ممتد منذ الحضارات المروية والكوشية، إذ وُجدت نقوش لصور نساء ورجال على وجوههم شلوخ، وبعد دخول الإسلام السودان، وبعد أن أصبح العنصر العربي هو الغالب، تبينت المجموعات العربية، ولأسباب عرقية برزت مرة أخرى فكرة الشلوخ".
ويوضح أن "انتشارها في أفريقيا كان غالباً في الوجه والجبهة والبطن، فيما يُسمى بالوشم الموجود في قبائل جنوب السودان حالياً، وهي عادة أفريقية في الغالب. وكان الاستعمار عمل على محاربتها لأهداف سياسية وصحية، كما حاربتها من بعد المهدية أيضاً بوصفها "تغييراً لخلق الله"، ومن ثم بدأ تلاشي الأسباب العرقية التمييزية، ولكن بقيت الأبعاد الجمالية التي خلدتها أغاني فترة الثلاثينيات والأربعينيات".
أصل الشلوخ
في المقابل، يقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة الخرطوم، إدريس سالم الحسن، إن "الشلوخ ليست حصرية على السودان فقط، بل توجد أيضاً في بعض البلدان الأفريقية والآسيوية، لكنها تختلف باختلاف المكان والزمان. وفي السودان عبرت عنها بعض الرسومات على الجدران لإنسان السودان القديم، إذ تظهر الشخصيات بشلوخ واضحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف، "أما أصلها فهي رموز معينة متعلقة بالجسد الإنساني، ومعبرة عن كون الإنسان مهتماً بجسده باستخدام أشياء كثيرة قد تبدو غريبة، وفي أجزاء كثيرة منه أهمها الوجه، لظهوره وتعبيره المباشر عن الرمز المراد التعريف به وما يحمله من معان تختلف من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، وهو رمز في الحياة الإنسانية وإشارة تُفهم في إطارها. وضمن ذلك يكمن التمايز البشري الذي يعكس دلالات الرمز، سواء كانت دينية وطائفية أم جمالية أم غيرها، كما يعكس التنوع على مستوى هذه الرموز الجسدية مصاحباً لتنوع القبائل واللغات والثقافات والطقوس".
تعبير غير منطوق
في سياق متصل، يرى الحسن "أن الشلوخ في حد ذاتها تعبير غير منطوق، لأنه في فترة من الفترات كانت تُعبر عن هوية الإنسان وانتمائه إلى أي منطقة في السودان وإلى أي مجموعة وأسرة وغيرها. ولكن فيما بعد، اختلطت هذه الأغراض. فمثلاً الرئيس الأسبق جعفر النميري كان من قبيلة الدناقلة، ولا تظهر عليه شلوخ القبيلة لحداثة عهده نسبياً مع فترات الشلوخ ونشأته في مدينة أمدرمان، ولكن كان يظهر عند صدغه شلوخ صغيرة (فصدتين)، وهي خاصة بأمراض العيون عند الصغر مثل الرمد وغيرها. وفي بعض الأحيان يُفصد الطفل في بطنه لعلاج آلام تلك المنطقة، كما يُفصد المريض على ذراعه أو أي أجزاء أخرى من جسده لإخراج الدم الفاسد، وهي عملية أقرب للحجامة".
ويوضح أن "التعامل مع الجسد يختلف باختلاف الطريقة، فمثلاً قبائل جنوب السودان مثل "الدينكا" يصنعون الشلوخ كخطوط عرضية بارزة على الوجه، وتأخذ أشكالاً مختلفة حتى داخل القبيلة الواحدة. أما قبيلة "الشلك" فتظهر لديهم في جزء فقط من الوجه على شكل حبيبات بارزة. ولقبيلة "النوير" ستة شلوخ على شكل دائري على جانبي الخدين. ولا يقتصر التدخل في الجسد على هذه الرموز فقط، وإنما هناك معتقدات جمالية وإثنية تُجرى بسببها عمليات على الأسنان، سواء كان بالتبريد لجعلها حادة وبارزة أم بخلعها، وثقب الأذنين ثقوباً واسعة في أكثر من موضع، وكذلك ثقب الفك وغيره".
ويتابع أستاذ علم الاجتماع بجامعة الخرطوم أن "للشلوخ وظيفة دينية وطائفية، إذ ارتبطت ببعض الطرق الصوفية، ومنها بعض الطرق في منطقة شرق النيل والجزيرة والشمالية التي عُرفت بها مجموعات دينية وأسرها وأتباعها، ويكون الشلخ على هيئة حرف (T) أو العصا التي ترمز للشيخ ود بدر في شرق النيل وأتباعه، وعلى هيئة حرف (H) أو السلم كما عند الشيخ الطيب السماني، كرمز للطريقة السمانية وكذلك الشيخ إدريس ود الأرباب، وعلى هيئة الحرف (Y) كما عند الشيخ حسن ودحسونة وهي رمز لطريقته". ويردف، "حتى في الوظيفة الدينية لا تخرج الشلوخ عن رمزيتها والتمييز بين الجماعات وانتماءاتها".
فروقات حضارية
توجد الشلوخ أيضاً في أفريقيا، ولكنها بأشكال أخرى ومتفرقة وتتعدد بتعدد الجماعات القبلية، وحتى داخل القبيلة الواحدة. ويرتبط انحسارها في تلك الدول كما في السودان بدرجة التحضر، إذ إن مدناً مثل الخرطوم والخرطوم بحري تكاد تخلو من الشلوخ، وكذلك مدينة أمدرمان لأنها كانت بؤرة انصهرت فيها قبائل من مناطق مختلفة من السودان، واختلطت فيها الأعراق منذ المهدية.
فقد ظهرت في بدايات تكوين المدينة، ثم تلاشت مع مجيء الاستعمار، إذ بدأت الدعوة الى أن تظل الشلوخ شأناً نسائياً، وباختلاط المواطنين بموظفي الإدارة الإنجليزية وانفتاحهم، ودخولهم وظائف الخدمة المدنية.
ولا يُتوقع الحسن أن الشلوخ التي ظهرت عند سكان هذه المدن بوصفها مناطق حضرية هي للتعريف بالهوية أو القبيلة، ولكنها اقتصرت على الميزة الجمالية للنساء.
إعادة إحياء
من جهة ثانية، تشير أخصائية الجلدية والتجميل إيثار محمد أحمد إلى "ارتباط الشلوخ بالجدات وحنانهن وعطفهن، وهو ما شد جيل اليوم إلى جمالهن الفطري. فالشلوخ تقود الناظر إلى وجه المرأة وتبرِز عيناها وخديها وشفتيها التي تخضع أيضاً لنوع من عمليات التجميل التقليدية، تُسمى بــ "دق الشفاة".
وبعد ذلك ظهر "التاتو"، وفكرته مستوحاة من الشلوخ ودق الشفاة عند الجدات، وهو إعادة لإحياء التراث بشكل حديث، إذ أصبح الراغبون فيه يخضعون لعملياته في عيادات التجميل وبأسعار باهظة".
وعن هذه العمليات ذكرت إيثار أن "الشلوخ قديماً كانت تُجرى من طريق الموس، وهي عملية قاسية تُجرى من غير مخدر، ثم يُغمر مكان الجروح بمادة نباتية مُقطرة حتى تبرأ، وكلما كان الوجه دائرياً كانت الشلوخ أوضح وأجمل. أما دقّ الشفاة فيُغمس الشوك في الكحل، ويُدق فيها ثم يُغمر مكانها بالمادة نفسها حتى تبرأ وتعطي لوناً مثل لون "التاتو" الحالي، أما الآن فيتم استخدام الـ "مايكرونيدلز"، وهي مجموعة إبر صغيرة من طريق جهاز يُمرر بسرعة شديدة على الجزء المراد من الجسم حتى تكتمل العملية".
تكريس انتماءات
في المقابل، تقول الأخصائية الاجتماعية والنفسية، عفاف إبراهيم حامد، إن "الشلوخ قديماً كانت لصد بعض المعتقدات والأمراض مثل الصداع وأمراض الرأس، ومن العين والحسد وبعض الاعتقادات الروحانية، وكذلك لعلاج الأورام باعتبار أن الفصد بالموس إخراج للدم الفاسد وتخفيف للوجع. ومن ثم تحولت وتدرجت ثقافتها ما بين المعتقدات والأعراف الاجتماعية والزينة والتمييز بين القبائل، نسبة للتباين القبلي وتعدد الهويات والثقافات والمنافسة بين القبائل في اتخاذ شكل مميز لها.
وترى الأخصائية الاجتماعية والنفسية، أنه "سواء كان التمييز قبلياً أو دينياً فإنه يُعد نوعاً من العنصرية القبلية، مما أدى إلى الانشقاق المجتمعي والرفع من قدر بعض القبائل والحطّ من أخرى، وكذلك خلق عداوات في ما بينها، وهو الجانب الأكثر سلبية لمغزى الشلوخ، لما فيه من تكريس للانتماءات الصغيرة الضيقة والولاءات الهامشية، وهو ما يتنافى مع روح المواطنة ومجتمع الحداثة. والشيء الآخر أن المرأة التي كانت تعمل في مهنة الشلاخة تحصل على قيمة مجتمعية، ومهابة من الجميع وشخصية مرعبة للفتيات اللواتي كن يخضعن لعملية الوشم أو الشلخ في بواكير أعمارهن".
ووفقاً لها، "فإن الآثار النفسية لتلك العادة لم تكن مرصودة من قبل، ولكن يبدو أنها كانت مقبولة لأن المجتمعات تؤديها بكل رضا وتباه وفخر، حتى إنها عند قبائل جنوب السودان تُعد من علامات الجمال واكتمال الرجولة والأنوثة، وهذه هي الصورة الذهنية التي جعلتها مقبولة بشكل عام من دون أن تمس آثارها نفسياتهم، ولكنها لأسباب أخرى غير التأثير النفسي أخذت هذه العادة تتراجع إلى أن انحسرت في المدن والقرى، ولكنها لا تزال تُمارس بشكلٍ طفيف عند بعض القبائل البعيدة من المدن، وعند البدو الرُحل وبعض سكان الأرياف البعيدة".