وقع خبر رحيل المخرج السوري حاتم علي كالصاعقة على أصدقائه وزملائه وجمهوره في سوريا والعالم العربي، وقد وافته المنية في الثامنة والخمسين من عمره إثر تعرضه لأزمة حادة في القلب، في أحد فنادق القاهرة التي كان لجأ إليها لمواصلة عمله التلفزيوني الدرامي، والبدء بتصوير مسلسل جديد بعنوان "سفر برلك". وأكدت السلطات المصرية، بعد تحقيق أجرته، أن الوفاة كانت طبيعية، وتمّ الاتصال بالسفارة السورية في القاهرة في شأن تصريح الجنازة والدفن.
حاتم علي، المتخرج في قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1986 بدأ حياته ككاتب للقصة القصيرة، محققاً في هذا السياق مجموعتين قصصيتين هما "ما حدث وما لم يحدث" و"موت مدرّس التاريخ العجوز" ليتجه بعدها إلى التمثيل مع كبار المخرجين السوريين. واشتهر بأداء الأدوار الصعبة والمركّبة، ولا ينسى الجمهور السوري دوره في مسلسل "دائرة النار" (1992) مع المخرج هيثم حقي، بينما كان يتابع عمله كمدرّس لمادة التمثيل في المعهد المسرحي، بعد تعاونه مع فرقة القنيطرة كممثل ومخرج. وقدم للمسرح أعمالاً كان أبرزها: "الحصار" (1989) و"مات ثلاث مرات" (1996) و"اليوم والبارحة وغداً" (1998) و"أهل الهوى" (2003).
ابن الجولان
انصرف ابن الجولان السوري إلى الإخراج التلفزيوني في منتصف التسعينيات، متوجهاً في البداية إلى موجة الأعمال الاجتماعية والكوميدية، وكان أبرزها "سلسلة مرايا" مع الفنان ياسر العظمة، و"عائلتي وأنا" مع الفنان دريد لحام، إضافة لعمله الاجتماعي "الفصول الأربعة" التي كتبت حلقاته زوجته الكاتبة والممثلة دلع الرحبي. وحصدت هذه السلسلة متابعة واسعة في العالم العربي، جعلت المخرج الراحل يتوجه إلى توقيع أعمال بسوية فنية عالية، تجاوزت سقف الرقابة المتعارف عليه، مشتبكاً مع المؤسستين السياسية والدينية في بلاده، لا سيما في عمله "عصي الدمع" عن سيناريو دلع الرحبي أيضاً، و"أحلام كبيرة" عن سيناريو لأمل حنا، وفي هذين العملين تعرض علي لموضوع الزواج المدني في بلاده، موغلاً في خلخلة السائد، ونازعاً الأقنعة عن مجموعة من العادات والأعراف والأنماط المتفق عليها.
لم يتوقف علي عند نجاحاته في الدراما الاجتماعية، بل توّجها بسلسلة من الاقتحامات للتاريخ العربي، مطوّحاً في أزمنة متعددة بمساندة من نصوص الكاتب الفلسطيني وليد سيف عبر ثلاثية "الأندلس" و"التغريبة الفلسطينية" ورائعته "الزير سالم" عن نص للكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان. في هذه الأعمال أطل على تواريخ وبشر وأمكنة، محاولاً إعادة قراءتها نقدياً، بعيداً من المتداول في التاريخ العربي المعاصر. ويمكن القول إن هذه الأعمال حققت نهضة كبيرة في الدراما التلفزيونية السورية، نقلتها من الترفيه والتسلية إلى موقع جديد على شاشات التلفزة العربية، التي سرعان ما بادرت إلى الاستفادة من نجاحات علي. فكلفته قناة MBC بإخراج مسلسل "الملك فاروق" عن سيناريو الكاتبة لميس جابر، وكانت هذه الإطلالة الأولى لعلي على الدراما المصرية، ليحقق بعدها عملاً كبيراً آخر لتلفزيون الشرق الأوسط بعنوان "الفاروق عُمر" عن نص للكاتب وليد سيف، متوجاً بذلك سلسلة طويلة من أعماله التاريخية، التي حصدت إعجاب الملايين من المشاهدين العرب، وأسرت قلوب المتابعين برفقة نجوم من قامة جمال سليمان، وسلوم حداد، وبسام كوسا، وسمر سامي، وخالد تاجا، ويوسف المقبل، وغسان مسعود، وتيم حسن، ومحمد مفتاح، وآخرين.
أفلام سينمائية
وحقق حاتم علي خرقاً على مستوى الأعمال البدوية، من خلال مسلسليه "صراع على الرمال" عن نص لهاني السعدي، و"أوركيديا" عن نص لعدنان عودة، وفيهما قدم صورة مغايرة لهذا النوع من المسلسلات، محققاً آفاقاً بصرية جديدة، ومؤالفاً بين الشعر والفيديو والمادة الدرامية. أما في تجربته السينمائية قلم يفت المخرج السوري وضع بصمته الخاصة عليها، فخارج الإنتاج الرسمي، استطاع توقيع ثلاثة من الأشرطة الروائية الطويلة باسمه، وهي "العشاق" من إنتاج السورية الدولية، و"سيلينا" من إنتاج نادر الأتاسي، و"الليل الطويل" عن نص لهيثم حقي، وإنتاج شبكة الأوربت. في هذا الفيلم تعرّض علي لموضوع المعتقلين السياسيين في بلاده، فمنع الفيلم من العرض في المهرجانات والصالات السورية، وحاز العديد من الجوائز منها جائزة "الثور الذهبي" لسينما بلدان البحر المتوسط، وجائزة "اتحاد نقاد السينما العالميين".
كان المخرج الراحل يجهّز التحضيرات الأخيرة لإطلاق تصوير مسلسله الجديد "سفر برلك" في مصر، وهو المشروع الأضخم إنتاجياً في العالم العربي (إيغل فيلمز- إم بي سي استوديو). إلا أن المنيّة وافته، تاركاً خلفه العديد من المشاريع الفنية، من بينها تحويل رواية "موزاييك دمشق" للكاتب السوري فواز حداد إلى فيلم روائي طويل، ومثلها رواية "زمن الخيول البيضاء" للشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، إضافة إلى تقديم نسخة سينمائية جديدة من عمله "الزير سالم" بطولة النجم جمال سليمان. إلا أن الأقدار أسكتت قلبه الذي كان اختار الصمت إزاء ما يحدث في بلاده، وقد غادرها إلى بيروت، ومنها إلى مصر، ومؤخراً إلى كندا، مؤثراً الابتعاد عن جحيم النار السورية الدائرة منذ أكثر من تسع سنوات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان حاتم علي يعتقد أن أهمية العمل الفني لا تستمد من أهمية الموضوع الذي يتناوله، إنما أولاً من المعالجة الفكرية والدرامية. فهو كان من المخرجين الذين يظنون أن الموضوع هو الذي يطرح شكل التعبير عنه، وبالتالي يقترح لغته الخاصة به. وكان يعد نفسه من المشتغلين ضمن المدرسة الواقعية، من دون أن يكون على تضاد مع المفهوم الجمالي، لكنه كان يحاول دائماً استنباط أحاسيس أو مشاعر الشخصيات، والوصول بها إلى أقصى ما يمكن، والبحث عن التفاصيل الصغيرة عبر حساسية الكاميرا.
خصوصية درامية
لم يكن صاحب أوهام في مشروعه الفني، إذ كان يعتبر دائماً أن ما يسمى الدراما السورية ما زالت في طور الشباب والتأسيس، وهي تفتقر إلى قوانين تنظمها، وبنى تحتية وتقاليد تجعل منها صناعة حقيقية. وضمن هذا السياق لم يكن علي الذي خاض تجربة الإنتاج الفني ينظر إلى تجارب زملائه من الممثلين الذين خاضوا مشاريع فنية إنتاجية مشابهة، إلا في إطار تطوير هذه الدراما، وأن لكل واحدة منها خصوصيتها. وبعض هؤلاء المخرجين قدّم أعمالاً مهمة، في سياق البحث عن الدراما الجديدة وبحثها عن نفسها أيضاً.
ونعت نقابتا المهن التمثيلية في مصر وسوريا عبر "فيسبوك" المخرج الراحل، شأنهما في ذلك شأن فنانين عرب كثر. وكتب المخرج السوري الليث حجو وهو صديق مقرّب من المخرج الراحل، عبر صفحته على فيسبوك: "لم يرضَ هذا العام أن ينتهي من دون أن يعصر قلوبنا وأرواحنا بالحزن على فراق الأحبة"، مبدياً "بالغ الحزن" على وفاة "الأستاذ والصديق والشريك حاتم علي".