لا يكاد يوجد في التاريخ المعاصر عام سينمائي أكثر غرابةً من هذا الذي مضى، حتى أننا سنبقى نتذكره أكثر من كل تلك الأعوام التي وفرت لنا تحفاً فنية وأعمالاً مهمة تتكرر مشاهدتنا لها بلا ملل.
2020؟ إنه عام "المآسي" السينمائية والتحديات الصعبة: مهرجانات طارت، أفلام بقيت في دواليب أصحابها في انتظار "الفرج"، هوليوود انسحبت من السوق وتعيش أكبر حالة تخبط لها منذ عقود، صالات أقفلت نهائياً، قطاع كامل انهار اقتصادياً. السينما كلها، بالصيغة التي نعرفها حالياً، باتت مهددة بسبب جائحة الكورونا التي ضربت العالم منذ نحو عام.
مَن كان ليتخيل حدوث شيء كهذا في فبراير (شباط) الماضي، يوم كان المجتمع السينمائي بأكمله في برلين يعاين كل جديد على الشاشات الكبيرة؟ أشياء كثيرة غير متوقعة حدثت منذ عشرة أشهر أسهمت في قلب الموازين، حد أن ناقد جريدة "لو موند" الفرنسيةـ كتب أن الجائحة فعلت في فرنسا (واحدة من أهم البلدان عرضاً للأفلام في الصالات) ما لم يستطع النازيون فعله خلال الحرب العالمية الثانية.
صعود نجم المنصات
ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، صعد، نتيجة انهيار المنظومة السينمائية، نجم منصات العرض التدفقي. هذه المنصات أول مَن قطف ثمار الانهيار الحاصل. احتلت "نتفليكس" صدارة المشهد. لكن منصات أخرى انضمت إليها شيئاً فشيئاً وبدأت تنافسها في أرضها. الناس في البيوت داخل الحجر المنزلي، خلف شاشاتهم، ولا بد من المشاهدة والتسلية. لكن المشاهدة المنزلية مختلفة؛ فهي بعيدة جداً عن فكرة السينما التي قامت منذ اختراعها على يد الأخوين لوميير (قبل 125 سنة) على فكرة المشاركة.
مشاهدة فيلم داخل صالة مع جمهور توفر تجربة من نوع آخر لا توفرها المشاهدة الفردية. وهذا ما حاول كثر قوله والتذكير به والتشديد عليه منذ بداية الأزمة، حرصاً على طقوس المشاهدة التقليدية وخشية من اندثارها. إلا أن الظروف الصحية هي التي فرضت شروطها على الواقع. ففي ظل إقفال الصالات وإخضاع فتحها لشروط التباعد الاجتماعي، بدت المنصات البديل الوحيد للمشاهدة.
المهرجانات الدولية التي تعتبر "الملاذ الآمن" للأفلام غير التجارية، وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه. الخيارات التي كانت أمامها ثلاثة: الإلغاء الكلي، أو تنظيم دورة افتراضية أو التأجيل ريثما تنتهي الجائحة. كثر من التظاهرات الصغيرة والمتوسطة لجأت إلى الخيار الافتراضي، للتغلب على الوضع الحالي وإنقاذ بعض الوظائف وضمان الاستمرارية وبثّ التفاؤل وإيصال كمية من الأفلام "اليتيمة" إلى الجمهور.
لكن كثيراً عبروا عن مخاوفهم من أن تتكرس هذه الحالة وتكون فاتحة لمشهد مهرجاني جديد ينقل شيئاً فشيئاً كل الأنشطة إلى الإنترنت.
أما المهرجانات التي قررت التحدي والمواجهة، فهي التي أنقذت ماء وجه العام السينمائي بعض الشيء، وفي مقدمها مهرجان البندقية السينمائي الذي عُقدت دورته في سبتمبر (أيلول)، في فترة يمكن اعتبارها هادئة نسبياً كونها وقعت بين موجتين.
كانت الموجة الأولى من الجائحة بدأت بالانحسار، والموجة الثانية لم تبدأ بعد. مدفوعاً بحس الجرأة والمغامرة والحاجة إلى إعادة الدم في شرايين الصناعة السينمائية، جاء مدير البندقية ألبرتو باربيرا بكمية من الأفلام من أنحاء العالم كافة، وهذا ما مدنا ببعض الإنتاجات السينمائية التي كانت كفيلة بإعادة الأمل إلى عشاق الفن السابع.
بفضل البندقية، شاهدنا أفلاماً مهمة من مثل "رفاقي الأعزاء" للمخرج الروسي الكبير أندره كونتشالوفسكي أو الشريط الفائز بـ"أسد" البندقية (نومادلاند)، علماً أن كل هذه الأفلام خرجت وستخرج تباعاً في ظروف "غير طبيعية"، قد لا تكون لمصلحة لا الجمهور ولا الصناع.
مهرجانات ألغيت
في المقابل، فإن الأزمة الحقيقية كانت من نصيب مهرجان "كان" السينمائي الذي بعد أشهر من المحاولات في بداية تفشي الوباء، اضطر إلى إلغاء دورته، ولكن القائمين عليه ظلوا يبحثون عن صيغة ملائمة قبل الرضوخ للأمر الواقع. ثم خرجوا بفكرة إنقاذ الأفلام التي كانوا اختاروها للدورة الملغاة، فأعلنوا عن برنامج افتراضي يتألف من مجموعة أفلام مختارة تحمل علامة "كان" التجارية، وذلك لتقديم نوع من دعم لها لدى عرضها في الصالات لاحقاً.
وهكذا، لأول مرة في تاريخ السينما، باتت هناك أفلام "كانية" في دورة لم تُعقد. مع ذلك، يُحسب لـ"كان" عدم الإذعان لضغوط العالم الافتراضي والانتقال إليه بالكامل، ففي نظر مفوضه العام تييري فريمو، كان هو أولاً احتفالية، "لا شيء يعوض الصفير في نهاية العروض، ورد الفعل الجماعي، وصعود السلالم". بالنسبة له من المعيب مشاهدة أفلام أندرسون أو بول فرهوفن على شاشة كمبيوتر أو آيفون.
عربياً، معظم المهرجانات أُلغيت، في مقدمها المهرجان السعودي الوليد، "البحر الأحمر"، الذي كان من المفترض أن تُعقد دورته الأولى في جدة. حدث ذلك في بداية الأزمة الصحية، ولكن في الأشهر اللاحقة مهرجانات عربية عدة أصرت على عدم الإلغاء. أهمها مهرجان "مالمو" للسينما العربية في السويد الذي استفاد من عدم تطبيق السويد إجراءات الوقاية المعمول بها في باقي البلدان الغربية، كي ينظم دورة اقتصر ضيوفها على المقيمين داخل أوروبا.
أما المهرجان العربي الذي تحدى الكورونا وأصر على الحياة بعد ما جرى تأجيله لشهر كامل عن موعده الأصلي فهو مهرجان الجونة السينمائي (مصر) الذي استطاع جمع عدد من الأفلام اللائقة من هنا وهناك لجمهور كان معظمه من ضيوف المهرجان. مع التشديد على فكرة أن الحظ حالف المهرجان، لأنه صادف انعقاده في فترة لم تكن الموجة الثانية من كورونا قد انطلقت بعد.
بعد هذا التعنت من إدارة الجونة، كان من المحرج لمهرجان القاهرة السير في خيار الإلغاء، فاختار التحدي هو الآخر، وأقيمت دورة شبه طبيعية، مع ضيوف وأفلام من كافة أنحاء العالم، لكن للأسف في ظروف صحية "أصعب" (القاهرة ليست الجونة ولا يمكن التحكم في الوافدين إليها)، إذ إن أعداداً كبيرة من المصابين بالكورونا ظهرت بعد انتهاء الدورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثمة أفلام عربية أبصرت النور في هذا الجو الموبوء. بعضها كان انطلق في نهاية 2019، وكان من المتوقع أن تلاقي جمهورها في 2020. من هذه الأفلام "ستموت في العشرين" للسوداني أمجد أبو العلاء (يُعرض حالياً على "نتفليكس")، "سيدة البحر" للسعودية شهد أمين، و"جدار الصوت" للبناني أحمد غصين. هذه الأفلام خرجت في الصالات ولفّت على ما تبقى من مهرجانات على الرغم من الظروف المحيطة بها.
أفلام عربية أخرى ظهرت في 2020، كانت أقل حظاً (أقله إلى الآن)، منها "غزة مونامور" للأخوين عرب وطرزان ناصر و"200 متر" لأمين نايف (كلاهما من فلسطين). أمام إعادة إقفال الصالات وتوقف المهرجانات مجدداً، فلا شك أن مصيرهما سيكون منصات العرض.
أفلام أميركية وأوروبية كثيرة عُرضت في العالم على مدار السنة. لا توجد إحصائيات دقيقة عن عددها. فالجائحة لم تقضِ على كل شيء. إلا أن وسائل المشاهدة التقليدية شهدت بعض التغيير. الضحية الأكبر لكل هذه المعمعة كانت ما يُعرف بـ"الـبلوكباستر"، أي الفيلم الهوليووي الضخم، الذي تعرض لانتكاسة كبيرة.
عدد من هذه الأفلام التي تكلف ملايين الدولارات وتعود بالأضعاف لجيب المنتجين، تم تأجيلها إلى 2021 على أمل أن تنتهي الجائحة وتعود الحياة إلى طبيعتها، الأمر الذي يبدو مستبعداً إلى الآن. أشهر حالة لفيلم جماهيري كبير ينتظر في الجوارير، هي الجزء الأحدث من مغامرات جيمس بوند الذي كان من المتوقع أن يُعرض في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
خلاصة القول: الأزمة سينمائياً كبيرة جداً وخطيرة، ولن تنتهي مع نهاية 2020، لا بل ستكون بداية لها. المستقبل غامض. لا أحد يعرف أي شكل سيأخذه في ظل العادات الجديدة التي ستكرسها الجائحة.
هل ستبقى الصالات المكان الأبرز لمشاهدة الأفلام؟ هذا هو السؤال الأبرز والهاجس الأكبر للمتمسكين بالشاشة الكبيرة! أغلب الظن أن هذه الأزمة قد تشكّل مناسبة لإعادة هيكلة كثير من الشؤون المرتبطة بالفن السابع التي كان الحديث فيها مؤجلاً، من مكانة السينما في ظل صعود نجم الإنتاجات البصرية الأخرى إلى طرق وصول الفيلم إلى الجمهور. مهما تكن النتيجة التي سنرسو عليها، يبقى أن 2020 عام سقط حتماً من روزنامة السينما.