على بعد أمتارٍ قليلة من ساحة كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، وداخل بيت الضيافة الشهير، أخذ "الشيف" الفلسطيني الفرنسي فادي قطان موعداً مع نفسه، ليفكر ملياً كيف يقضي على الهدوء القاتل الذي عم المكان، فالحنين إلى الفوضى وأصوات السياح والباعة وارتطام الملاعق بالسكاكين، دفعه للخروج من مطبخه الاحترافي الكبير هناك، إلى مطابخ النساء الفلسطينيات في مختلف مدن الضفة الغربية، في محاولة لاستدعاء الأطباق الفلسطينية التقليدية، وإطلاقها عبر الفضاء الإلكتروني لكل العالم "كرحلة غذائية" تُظهرالجمال الاستثنائي لتلك الأطباق.
"مطبخ تيتا"
فلسطين التي تشتهر بمعالمها الدينية والأثرية والتاريخية، شهيرة أيضاً بطعامها اللذيذ، يقول قطان مقدم البرنامج "مدينة بيت لحم (وسط الضفة الغربية) على وجه الخصوص، وإضافةً لأهميتها الدينية، تعد بقعة ساخنة لعشاق الطعام، حيث يجد السياح هناك الأطعمة المحلية بطرق جديدة وغير متوقعة، إلا أنها شهدت خلال هذه الفترة صمتاً وسكوناً غير معتادين، بسبب غياب السياح عنها بشكل قطعي، ولم يعد بالإمكان تحمل الملل والصمت الذي حل علينا كطهاة وأصحاب مطاعم بسبب فيروس كورونا والحجر المنزلي، فكانت الحاجة ملحة لوضع خطة جديدة تتأقلم وسياسة الجائحة التي فرضت علينا التباعد الاجتماعي، وبدأت الفكرة بإطلاق برنامج طهي عبر يوتيوب باللغة الإنجليزية يدعى تيتا كيتشن (مطبخ الجدات)، يهدف لتعريف العالم بغنى الأطباق الفلسطينية وتنوعها، بعيداً عن الحمص والفلافل، فهناك المسخن والمقلوبة والفريكة وغيرها، وفي كل حلقة نُظهر جدة لتقدم طبقاً جديداً في بلدة أو مدينة فلسطينية مختلفة، فهن بحسب رأيي نجمات العرض داخل مطابخهن، وهن حارسات المطبخ الفلسطيني، فأسرار إعداد الطعام الأصيل البعيد عن العصرية والحداثة، لطالما كانت محفوظة في ذاكرة الجدات، وشغفي للطبخ انتقل إلي من مطبخ جدتي جوليا، حيث تعلمت منها كثيراً عن النكهات المختلفة والطعام الفلسطيني الشعبي".
بودكاست
يضيف "جاءت جائحة كورونا لتفرض علينا تسخير كل الإمكانات والأدوات، لإبقاء فلسطين وقضيتها حاضرة بكل مكوناتها بدءاً من المطبخ وحتى السياسة، فإلى جانب برنامج تيتا كيتشن، حاولت تحريك مخيلة المستمعين حول العالم من خلال بودكاست صباح الياسمين، الذي رسم جمال وسحر الطبق الفلسطيني عن بُعد، حيث تنوعت 90 حلقة للبودكاست، بين استضافة طهاة عالميين، والحديث عن العلاقة الوطيدة بين المطبخ والذكريات العائلية وثقافة الشعوب وتاريخها، وبين إعداد الأطباق الفلسطينية التقليدية كالمجدرة والمفتول وغيرها، وهو ما ساعدنا على دغدغة مشاعر محبي الطعام لتجربة تلك الأطباق في مطابخهم العالمية، حسبما يقولون في الرسائل والتعليقات أسفل كل حلقة".
صورة نمطية
في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني)، سعت الهيئة الفلسطينية للدبلوماسية العامة عبر برنامجها "تيتا كيتشن" إلى تطويع كل وسائل التقنية الحديثة، واستثمار التكنولوجيا بلغات عالمية كالحملات الرقمية وغيرها عبر مواقع التواصل الإلكتروني بمختلف أشكالها، لإثبات وجود الفلسطينيين بصورة جديدة (غير نمطية)، أملاً بأن يرى العالم الجوانب المختلفة والمشرقة عن الشعب الفلسطيني خلال الجائحة وما قبلها.
يشرح سالم براهمة المدير التنفيذي للهيئة قصة مطبخ الجدات "خلال الأعوام الأخيرة، ظهرت برامج وفيديوهات مخصصة فقط لأشخاص يجوبون العالم بحثاً عن الطعام، وما فعلناه نحن في "تيتا كيتشن" أننا عكسنا الأدوار، وأصبحنا نعد الطعام في مطابخنا البسيطة لتجوب الفضاء الإلكتروني بكل اللغات، بحثاً عن محبي الطعام، وتشجيعهم لتجربته وإعداده في مطابخهم أينما كانوا، وتسليط الضوء على الجدات يهدف لإظهارهن كحارسات أمينات للمطبخ الفلسطيني".
مقاومة كورونا
أجبرت الأزمة الصحية العالمية نادين بابون وكريستين ناجاريان، على إعادة التفكير في معتقداتهماالراسخة حول شكل الرحلات الغذائية، التي كانتا تنظمانها لسوق بيت لحم القديم، والغرض من تلك الرحلات، وكيف تكون الأطباق الفلسطينية أكثر مقاومة للمتغيرات التي فرضتها الجائحة على واقع المدينة السياحي.
تقول بابون "سابقاً كنا نرافق زوار بيت لحم برحلات غذائية صحية يتعرفون فيها على تقاليد الأطعمة الفلسطينية، من خلال زيارة السكان المحليين داخل المطبخ لإعداد أطباقهم بأنفسهم، ما كان يضيف شغفاً في تحضير الطعام، ويزيد من دخل النساء الفلسطينات العاملات معنا، لكن ما نفعله اليوم هو تعريف السياح من خلال البث المباشر أو الفيديوهات القصيرة والصور الاحترافية، حول كيفية اختيار الخضار واللحوم والأعشاب لإعداد تلك الأكلات الصحية بأنفسهم، ولدينا حماسة للخروج بعشرات الأفكار التي من شأنها إبقاء الطبق الفلسطيني على المائدة العالمية".
زووم في المطبخ
أطلقت جائحة كورونا موجة هائلة من المراجعات لدى الفلسطينيين في مهنة الطبخ، وفي أسلوب تثبيت هوية الطبق الفلسطيني عالمياً، بخاصة بعد أن كثرت ادعاءات إسرائيل ملكيتها لأطباق فلسطينية كالحمص والفلافل والشكشوكة وغيرها، فالطاهية البريطانية الفلسطينية جودي القلا صاحبة كتاب "فلسطين في طبق" استثمرت تطبيق زووم لإعطاء دروس لمجموعة من المشتركين حول العالم، في طرق طبخ الطعام الفلسطيني، فيما قامت الشيف في القنصلية البريطانية في القدس لبنى خروفه، بتقديم نصائحها لمن يعملون معها عبر الإنترنت، مرسلة لهم وصفات طبخ ونصائح مأكولات لتقوية جهاز المناعة، وقائمة بالمشتريات الضرورية كالعدس والسبانخ.