سلط إعلان الحكومة الأرمينية حظر استيراد البضائع التركية مدة ستة أشهر، الضوء على مجمل العلاقات التركية- الأرمينية التي يتداخل فيها التاريخ بالجغرافيا والدين بالسياسة والمصالح الجيو استراتيجية، ولا تتوقف عند تصفية حسابات التاريخ وحروب الوكالة.
جاء قرار يريفان هذا احتجاجاً على دعم تركيا أذربيجان في أزمة إقليم قره باغ، حيث أعلنت أنقرة موقفها الواضح والوقوف التام إلى جانب "شقيقتها" أذربيجان لاستعادة أراضيها المحتلة، على عكس بقية الأطراف التي تعلن حيادها في صراع جنوب القوقاز، وتدعم هذا الطرف أو ذاك من وراء الستار. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في تصريح لافت، إن تركيا لم تخف قط أنها تدعم أذربيجان في قره باغ.
حرب قره باغ الثانية
ونجحت موسكو في إيقاف حرب قره باغ الثانية، بعد معارك استمرت 44 يوماً، وتدخلت روسيا للتفاوض على هدنة "حقيقية"، بعد استعادة القوات الأذربيجانية بلدة شوشا، وأدت وساطة الرئيس الروسي إلى نشر قوات حفظ سلام روسية، وانسحاب أرمينيا من بقية الأراضي الأذربيجانية التي تحيط بقره باغ، وإقامة مركز روسي- تركي مشترك لمراقبة وقف إطلاق النار وتنفيذ الاتفاق.
وقالت وزارة الاقتصاد الأرمينية إن "حظر الاستيراد لن يؤدي إلى زيادة الأسعار في البلاد، لأن البضائع التركية ليست مهيمنة، إذ يمكن للواردات من روسيا وبيلاروس وإيران والصين أن تحل محلها"، ولا يشمل الحظر العناصر الوسيطة المطلوبة لإنتاج السلع الأرمينية.
حل دائم
وأثارت التصريحات المتبادلة بين مسؤولين أتراك وآخرين أرمن، في الآونة الأخيرة، الكثير من التوقعات، بإيجاد حل دائم للمشكلات في جنوب القوقاز، وفتح صفحة جديدة من التعاون الإقليمي ومستقبل المنطقة بشكل عام، لا سيما المتعلقة بفتح الحدود التركية- الأرمينية، وإقامة علاقات دبلوماسية بين أنقرة ويريفان، وبين أذربيجان وأرمينيا، وذلك بعد زوال أهم العقبات على إثر استعادة أذربيجان أراضيها المحتلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليس بين أرمينيا وتركيا علاقات ديبلوماسية، والحدود الأرمينية- التركية قد أغلقت منذ 1993 بناء على مبادرة من أنقرة، والعلاقات المعقدة بين البلدين الجارين تسببت بها جملة أمور، أبرزها موقف أنقرة المؤيد لأذربيجان في إقليم ناغورنو قره باغ، وكذلك موقف البلدين المتناقض والمتعلق بالأحداث التاريخية عام 1915 في الحقبة العثمانية.
أحداث 1915
وتمتد الحدود المشتركة بين أرمينيا وتركيا مسافة 330 كيلومتراً، وكشرط لتطبيع العلاقات الثنائية، تطالب أنقرة يريفان بالقيام بأبحاث حول أحداث 1915 في أرشيفات الدول الأخرى، إضافة إلى الأرشيفات التركية والأرمينية، وإنشاء لجنة تاريخية مشتركة تضم مؤرخين أتراكاً وأرمناً، وخبراء دوليين، وحل القضية عبر منظور "الذاكرة العادلة"، الذي يعني باختصار التخلي عن النظرة الأحادية الجانب إلى التاريخ، وتفهم كل طرف ما عاشه الآخر، والاحترام المتبادل لذاكرة الماضي لدى كل طرف، إضافة إلى تسوية النزاع مع أذربيجان.
ووفقاً لحسابات الخبراء الاقتصاديين، وبسبب الإغلاق الحدودي والتنقل غير المباشر للبضائع والأفراد بين تركيا وأرمينيا، تقدر الخسائر السنوية بين 300 و400 مليون دولار، ومع ذلك، كانت بين أرمينيا وتركيا علاقة غير رسمية، ويقدر حجم التبادل التجاري بين الدولتين حوالى 100 مليون دولار في السنة.
ولا يمكن تجاهل مدى تأثير فتح الحدود البرية في المساعدة على تحسين الوضع الاقتصادي في أرمينيا ووصولها إلى العالم الخارجي، كما ستفيد المناطق التركية المتاخمة لأرمينيا حيث يرغب السكان المحليون منذ مدة طويلة في توثيق العلاقات لتعزيز اقتصاداتهم المحلية.
الاتفاق الثلاثي
ومعلوم أن أنقرة فاجأت حليفتها التاريخية أذربيجان أواخر عام 2009، بالإعلان عن بداية التطبيع مع أرمينيا عدو أذربيجان وتركيا اللدود، وقد استنكرت أذربيجان وقتها الخطوة، معتبرة أن ذلك سيؤدي إلى زيادة التوتر في منطقة جنوب القوقاز، إذا لم تترافق مع حل لأزمة إقليم ناغورنو قره باغ والأراضي الأذربيجانية المحتلة من الجانب الأرميني.
ويمكن القول إنه بعد الاتفاق الثلاثي الذي أوقف حرب قره باغ الثانية برعاية روسية وتنسيق تركي، أضاع الغرب وواشنطن على وجه الخصوص، فرصة وصول حكومة حليفة لها إلى السلطة قبل عامين في يريفان للبدء في فتح صفحة جديدة من العلاقات بين حلفائها، باكو ويريفان وأنقرة، وزيادة عزلة طهران عبر بوابتي باكو ويريفان معاً، وأيضاً كسر حلقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز بإبعاد دولة أخرى عن الدوران في فلك موسكو.
وطالب جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، قبل أكثر من عامين، أثناء زيارته أرمينيا، علانية يريفان بالتخلي عن "الكليشيهات التاريخية" في علاقاتها الدولية، ولم يخف أن الحديث يدور عن الصداقة التقليدية مع موسكو، كما قال إنه يتوقع من نيكولاي باشينيان، القائم بأعمال رئيس الوزراء الأرميني وقتها، بعد الانتخابات، اتخاذ خطوات استباقية بشأن تسوية ناغورنو قره باغ، إضافة لترويجه الأسلحة الأميركية، وقد انتقدت وزارة الخارجية الروسية تصريحات بولتون، وجاء في بيان الخارجية الروسية، "بدا كما لو أنه ليست هناك وقاحة أكثر من تلك التي لا يمكن تمييزها عن التدخل المباشر في الشؤون الداخلية، اتضح أن الأمر ليس كذلك".
وبحث بولتون في يريفان من بين الأمور الأخرى، مواجهة طهران، وفي دردشة خاصة مع دبلوماسي أرميني رفيع، بعد زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، بأسابيع عدة، قال الدبلوماسي الأرميني إن ايران منفذنا البري الوحيد، كيف يمكننا أن نسير في خطط ومشاريع واشنطن، في ظل إغلاق الحدود التركية والأذربيجانية، مع استمرار الـتأزم في العلاقات بين روسيا وجورجيا، وبكلام آخر، لا يمكن الابتعاد عن طهران من دون تحسن العلاقة مع تركيا التي بدورها ستقود إلى فتح الحدود البرية، وسبق أن أعلن الرئيس التركي توركوت أوزال، أوائل التسعينيات، الحاجة إلى المسؤولية السياسية للبلاد عن الجمهوريات "الناطقة بالتركية"، وفي عهده، اتخذ قراراً بإغلاق الحدود البرية مع أرمينيا، التي كانت في ذروة مواجهتها العسكرية مع أذربيجان .
ويبقى القول إن خطوة يريفان الأخيرة قد تضع حداً حتى ستة أشهر، لأي توقعات بفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع أنقرة، بعد إبرام موسكو اتفاق إنهاء المعارك بين أذربيجان وأرمينيا مع خريطة جديدة لقوى السيطرة تختلف عن تلك التي أعقبت حرب قره باغ الأولى.