استطاعت روسيا إيقاف حرب قره باغ الثانية في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بعد وساطة ناجحة في إنجاز اتفاق ينظر إليه اليوم على أنه تاريخي بين أرمينيا وأذربيجان. وبعد استكمال تنفيذ كامل بنود الاتفاق، التي من بينها "تبادل الأراضي" أو الممرات البرية، ستسيطر موسكو على حركة النقل بين أرمينيا وجزء من جيب قره باغ عبر أراضي أذربيجان، وبين الأخيرة وجيب إقليم ناخشيفان الأذربيجاني عبر الأراضي الأرمينية.
إلا أن الشق المذكور أعلاه من الاتفاق تحديداً يقلق طهران مع جملة عوامل أخرى كالوجود الطويل الأمد للقوات العسكرية الروسية في المنطقة، التي ستنتشر في أجزاء من إقليم قره باغ، وعملية إنشاء الممر بين ناخشيفان وأذربيجان، وكيفية إدارة الممر والإشراف عليه، ولا يستبعد خبراء أن إيران ستحاول عرقلة تنفيذ بند تبادل فتح الممرات بين الجارين القوقازيين، لما له من خطر جيوسياسي عليها.
وتمكنت باكو عبر الاتفاق الثلاثي من الحصول على موافقة يريفان لفتح ممر عبر أرمينيا بينها وإقليم ناخشيفان، بالتالي ربط أراضيها بالإقليم الذي كان معزولاً بشكل كامل عنها، على الرغم من أنه يتبع لها، الشيء الذي يعد بمثابة تحول إستراتيجي مهم ليس فقط في أذربيجان، بل في عموم المنطقة، إلى جانب تأمين الاتصال الجغرافي المباشر مع تركيا، من خلال شريط حدودي يمتد 23 كيلو متراً.
ويعد إقليم ناخشيفان الأذربيجاني، أكبر منطقة جغرافية في العالم، تابعة لدولة لا ترتبط بها بممر بري، وتحيط بها أراضي دول أخرى من كل جانب، كما أن الإقليم من أكثر مناطق الاتحاد السوفياتي السابق عزلة.
إيران الخاسرة
وليس من المبالغة القول، إن إيران قبل أرمينيا خاسرة من الاتفاق الذي رعته روسيا. وعلى الرغم من الترحيب الرسمي به، واعتباره ذا أهمية لإحلال السلام في جنوب القوقاز، فإن تصريحات وتحليلات جهات مقربة من صناع القرار في طهران تشير إلى أن الترحيب الحكومي تشوبه في الوقت نفسه مخاوف وقلق مما يمكن أن تصل إليه ترتيبات الأوضاع في مراحل مقبلة.
ولم تكد تمضي أيام على إعلان اتفاق قره باغ، حتى أصدر النائب الإيراني أحمد بيغيش بياناً صارماً طالب فيه بعدم الاعتراف بالممر بين ناخشيفان وأذربيجان، بالإضافة إلى ذلك، دعا طهران إلى اتخاذ إجراءات ضد تقوية تركيا في أذربيجان، وقال وفقاً لما تناقلته وسائل إعلام أذربيجانية، "نحن لا نعترف بممر يخدم تركيا"، كما دعا بيغيش برلمان بلاده إلى الإعلان رسمياً أن إيران لا تعترف بالتغيير الجغرافي للحدود في المنطقة والممر المقابل.
ولم تخف الأوساط الإيرانية المنتقدة لاتفاق إنهاء الحرب قلقها وتحذيرها من أن الاتفاق من شأنه أن يحدث تغييرات خطيرة في فضاء إيران الحدودي، واحتمال قضائه على حدودها مع أرمينيا بسبب الممر الذي ينص الاتفاق على إنشائه لربط ناخشيفان بأذربيجان، الذي يمر على امتداد حدود إيران في المنطقة، لذلك هناك مخاوف جادة من أن يكون الممر ملاصقاً للحدود الإيرانية، ما يعني قطع التواصل الجغرافي بين أرمينيا وإيران.
وحرصت طهران في المرحلة الأخيرة خلال حرب قره باغ الثانية على الظهور في المشهد كوسيط مُحايد بين أذربيجان وأرمينيا، فقد جدد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عرض بلاده الوساطة في أكثر من مناسبة، بالإضافة إلى نفيها عبور أسلحة لأرمينيا عبر أراضيها، في محاولة للتخلص من الاتهامات التي لازمتها خلال سنوات طويلة من النزاع أنها داعمة ليريفان. فبعد عام 1993 على الرغم من استمرار النزاع الأذربيجاني الأرمني لم يظهر لطهران عموماً أي تضامن خاص مع باكو، وكانت تميل بشكل أو بآخر نحو أرمينيا.
وهناك عوامل عديدة تؤثر في علاقات طهران – باكو، منها تل أبيب وواشنطن، وكذلك الجالية الأرمينية داخل إيران نفسها، مع وجود عوامل متبادلة، بينها قلق إيراني من النزعات الانفصالية للمناطق الأذرية، كما تخشى أذربيجان من التأثير الديني الإيراني في مجتمعها العلماني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحاجة المتبادلة
وقد لا يبدو أن باستطاعة إيران وأرمينيا أن تكونا شريكتين، ومع ذلك فالواقع يشير إلى أن علاقات طهران بيريفان تعد أقوى من تلك التي تربطها بكثير من الدول الإسلامية المجاورة، والواضح أن الضرورة تسير بالبلدين في اتجاه بعضهما بعضاً، فإيران في حاجة إلى أرمينيا لتوفير معبر بديل للنقل إلى روسيا وأوروبا، وأرمينيا بدورها تواجه انسداداً متواصلاً في طرق التجارة من جانب أذربيجان وتركيا، وهي معنية بتأمين ممر آمن وموثوق للتجارة.
وفي جزء من توجه طهران نحو يريفان، هناك هدف منع واشنطن وتل أبيب من تطويقها بشبكة قوية من العلاقات مع دول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، وفي مقدمها أذربيجان، حيث تحتل باكو أولوية في أذهان صناع القرار في واشنطن، الذين تشغلهم كيفية التعامل مع إيران.
وصحيح أن إيران تمتعت بعلاقات قوية مع أرمينيا، لكنها بالمقابل، لم تتمكن من جعل أذربيجان ضمن حلقة نفوذها الإقليمي، على رغم خلفيتها الدينية المشتركة معها، كما تربطهما علاقات تاريخية وثقافية عميقة، فالقومية الأذرية في إيران تعد القومية الثانية في التركيبة الاجتماعية بعد القومية الفارسية.
وحافظت أذربيجان على علاقات ودية مع طهران لأنها اعتمدت على مجالها الجوي وأراضيها لتزويد منطقة الحكم الذاتي في إقليم ناخشيفان، التي تقع بين إيران وأرمينيا وتركيا بالبضائع والغاز، لكن إعلان تركيا عن خط أنابيب غاز جديد لتزويد ناخشيفان بالطاقة، يعني خسارة إيران أهميتها الجيوسياسية لأذربيجان، ومتوقع أيضاً أن تتغير ديناميكيات العلاقات الثنائية لصالح باكو، بعد عودة جزء من حدود إيران مع أذربيجان لسيطرة باكو، ما يسهل التواصل بين أذربيجان والأذر الإيرانيين بعد انقطاع لعقود، بعد أن ظل تحت سيطرة أرمينيا حليفة طهران منذ 1994.
اختلف الوضع اليوم، ومن غير الواضح بعد، كيف سيؤثر انتصار أذربيجان في حرب قره باغ الثانية على علاقتها مع إيران، بعد أن منح الاتفاق الأخير، برعاية روسية وتنسيق تركي، أذربيجان حق العبور عبر أراضي أرمينيا مباشرة إلى الجزء الآخر من أراضيها في إقليم ناخشيفان.
وسيفرض اتفاق قره باغ على إيران جهوداً مضاعفة، ومزيداً من الموارد للتأقلم مع الواقع الجيوسياسي الجديد على طول حدودها الشمالية، وهذا يعني اهتماماً أقل بدول أخرى تسعى طهران لتعزيز نفوذها فيها، كما أن تغير الوضع المريح الذي تمتعت به إيران في جنوب القوقاز على مدى العقود الثلاثة الماضية، لم يأت في أفضل أوضاع طهران.
يبقى القول، إنه على الرغم من أن موسكو وطهران تتمتعان بعلاقات جيدة في الآونة الأخيرة، فإنهما في حالة تنافس منذ قرون، ولم تسلم روسيا من الانتقادات الإيرانية، في ظل اتهامات لها بتجاهل الدور الإيراني، وعقد صفقة مع أنقرة حول قره باغ بعيداً عن طهران، في ظل قلق من التوافق الروسي التركي في منطقة جنوب القوقاز، التي تعتبرها إيران حيوية لها بعد تفاهمات موسكو- أنقرة التي حصلت في سوريا.