بموازاة معرض "بيكاسو ــ رودان" الدائر حالياً في باريس، تنظّم "مؤسسة بييلير" الفنية في متحفها في مدينة بازل السويسرية معرضاً حوارياً مشابهاً بعنوان "رودان ــ آرب"، يضع وجهاً لوجه، وللمرة الأولى، أعمالاً لمحدّث فن النحت في نهاية القرن التاسع عشر، الفرنسي أوغست رودان (1840 ــ 1917)، وأخرى لأحد روّاد فن النحت التجريدي في القرن العشرين، الألماني هانز آرب (1886 ــ 1966). معرض لا يفوَّت إذاً لعملاقين امتلك كل منهما قوة ابتكار فريدة وميلاً استثنائياً للاختبار، ولم تطبع منحوتات كل منهما حقبتها فحسب، بل ما زالت تحافظ على كل راهنيتها.
وفعلاً، تعكس ابتكارات رودان وآرب بطريقة نموذجية جوانب أساسية من التطوّر الذي طرأ على ممارسة فن النحت في العصر الحديث. ومن مقابلتها، يتبيّن كيف أدخل رودان أفكاراً وإمكانات فنية جديدة بشكل راديكالي، وكيف استثمرها آرب في أشكاله العضوية، مطوّراً إياها، معيداً تأويلها أو مناقضاً إياها. وبالتالي، مع أن لا دليل إلى حد اليوم على معرفة شخصية أو لقاء بين الفنانين، يمكن المتأمّل في أعمالهما استشفاف روابط قرابة فنية ومراجع مشتركة، وأيضاً اختلافات، ما يجعل من معرضهما الحالي تجربة بصرية مثيرة ومعبّرة.
مرتين، وجّه آرب تحية واضحة ومباشرة لرودان: الأولى في "منحوتة آلية ـ احتفاء برودان" عام 1938، والثانية في قصيدة "رودان" التي كتبها عام 1952 وقارن فيها منحوتات معلمه بـ "زهور شر سماوية وأرضية" وبـ "قبلات نائمة". لكن على طول مسار المعرض، يمكننا اكتشاف أعمال يبدو الاحتفاء بها أكثر بداهة، بدءاً بمنحوتة "بطليموس" (1953) التي تعانق بشكل مبلبل منحوتة رودان الشهيرة "المفكر" في بهو المعرض، مروراً بمنحوتة "امتصاص ذاتي" (1956) التي تحاور بشكل حميم منحوتة رودان "الظل" (1902 ــ 1904)، وانتهاء بالمحفورة الخشبية التي جسد آرب فيها عاشقين ملعونين وتشكل تأويلاً طريفاً لمنحوتة رودان الأشهر، "القبلة، باولو وفرانشيسكا" (1899)، التي يتعانق فيها رجل وامرأة بولع كبير، وهي في الأصل جزء من مشروعه الضخم "باب الجحيم".
ما وراء التصويرية
من محتويات المعرض إذاً يتبين لنا فوراً أن الفنانين يلتقيان ما وراء الأسلوب التصويري لرودان والأسلوب التجريدي لآرب، وأبعد من حقيقة أن الأول أضفى على منحوتاته بعداً سردياً، بينما انشغل الآخر في بحث عن تحرر شكلي. من هنا قيمة الجملة التي كتبها أحد أهم المتخصّصين في فن رودان، ألبير إيلسين، ونقرأها على أحد جدران المتحف: "يعود إلى آرب إنجاز في النحت روح استعارات رودان". جملة قصد فيها أن النحات الألماني شكل في عمله خير امتداد لعمل النحات الفرنسي. ولكشف هذه الحقيقة، عمد منظمو المعرض إلى إعادة تصميم فضاءات متحف مؤسسة "بييلير" بغية إظهار الطريقة التي تملك آرب فيها رؤى رودان. تملك آلَ أحياناً إلى استعادة شكل من أجل تقليصه إلى جوهره، أو استخلاص حصيلة منه، أو حتى تطويره، كما حين منح آرب حياة مستقلة إلى تلك الأجزاء التي تركها رودان على حالها الخام في منحوتاته.
يسلط المعرض الضوء أيضاً على روابط مضمون ومقاربة تصورية بين الفنانين. تظهر في استكشافهما موضوعات وجودية مشتركة، كالخلق والنمو والتحول والاضمحلال، نتجت منه أجساد بشرية وحيوانية ونباتية مقولبة بطرق جديدة كلياً. ومع أن كل من آرب ورودان امتلك تصوراً فريداً للطبيعة والفن، لكن المعرض يبين أن المقارنة تصلح هنا أيضاً، على مستوى السيرورة والاختبار، وأيضاً في استثمار المصادفات الطارئة خلال العمل كمبدأ فني. والأمر بالنسبة إلى اهتمامهما بفكرة الحي كموضوع فلسفي جسده كل منهما في منحوتات باهرة في حيويتها، أو بالنسبة إلى الفتنة التي تمارسها أعمالهما بفضل التلاعب بالأحجام الحسية، السائلة والنقية، لدى آرب، والتلاعب بالمسطحات والأشكال المفسدة أو الخام، لدى رودان.
لا يهمل المعرض مسألة التمفصل بين تشييد وتفكيك التي أدخلها رودان على فن النحت وطورها آرب، ولا الروابط التي تجمعهما في منهج العمل، كنقل الوجوه والقامات المقولبة من مادة إلى أخرى، أو إنجازها بأحجام مختلفة تذهب من الحجم الصغير جداً إلى النصب الضخم، ولا الاهتمام الذي أولياه لطريقة مثول منحوتاتهما، وبالتالي للقاعدة أو الركيزة (socle) التي يُعتبر رودان أول من وضعها موضع تساؤل. لا يهمل أيضاً الروابط على مستوى الأنماط الممثلة بوصفها أشياء وأحجاماً، كالظل أو اليد الخلاقة أو الإناء، ولا استقاء موضوعاتهما غالباً من الأدب، كالميثولوجيا أو "الكوميديا الإلهية" لدانتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن كل نقاط التقارب هذه لا تلغي الاختلاف في الأسلوب بين النحاتين الذي يظهر بدوره داخل المعرض. فحين نتأمل أعمال رودان الحاضرة فيه، يتبين لنا أنه نحت الأجساد بدقة وعناية تمكننا من عد الفقرات فيها وتجعلنا لا نتفاجأ إن رأينا "مفكره" يغادر ركيزته ويذهب للتأمل بعيداً بكل حرية، أو "عاشقيه" ينفصلان عن بعضهماً بعضاً للتنزه والتحاور بسعادة في حديقة "بيروير" التابعة لمبنى مؤسسة "بييلير". بالتالي، عمله واقعي إلى حد عرضه عام 1877 إلى اتّهام جائر بكونه لم يفعل لإنجاز منحوتة "العصر البرونزي" سوى قولبة جسد بشري حقيقي. اتّهام لا يمكن أن يتعرض له آرب الذي صفى في منحوتاته موضوعاتها إلى حد حضور طيفي.
مع ذلك، يتوجب الإقرار بأن آرب عرف، أكثر من أي فنان آخر، كيف يمسك بما يميز الجانب البشري في منحوتات رودان، أي الحركة، كما تشهد على ذلك منحوتات كثيرة له، لعل أبرزها "تقطيعات متراكبة" (1960) التي تستحضر بقوة في حركيتها، على الرغم من طابعها التجريدي الصرف، الوضعية الفخورة التي يمثل فيها الكاتب بالزاك في المنحوتة التي رصدها رودان له.
يبقى أن نشير إلى أن السينوغرافيا المعتمدة في المعرض الحالي تساهم من دون شك في جعلنا نرى التقاربات والنقاط المشتركة، بين النحاتَين، التي سبق ذكرها، لكن هذا لا يعني أنها مجرد افتراضات لا يمكن تأكيدها أو الارتكاز عليها، كما لمح إلى ذلك أحد النقاد.