من المعطوف على من، النفط أم السياسة؟ العجيب أن معاني "العطف" في اللغة العربية تنطبق بمعانيها المختلفة على العلاقة بين النفط والسياسة سواء كانت السياسة هي المعطوف عليه أو النفط!
فتأتي بمعنى "مال عليه" و "عطف عليه" و "ثنا الشيء" و "هاجمه" من "حمل عليه وكر" و"غيّر رأيه" من "عطفه عن الأمر، أي غير رأيه". كما تأتي بمعنى "العطف عليه" أي "أشفق وحنا عليه" و "رقّ له". كما يشير أحد المعاني إلى تغير اتجاه الطريق يمنةً أو يسرة بشكل حاد، أو هبوط أو صعود حادين. كما يعني "الانعطاف" نقطة تغير كبيرة في شيء ما، أو علامة تاريخية أو سياسية في غاية الأهمية. في ضوء المعاني السابقة، وفي ضوء الأحداث المختلفة خلال التاريخ الحديث لصناعة النفط العالمية، بشقيها النفط والغاز، يتبين أن النفط يؤثر في السياسة، والسياسة تؤثر في النفط. وشرح وتوثيق هذه العلاقة يحتاجان إلى كُتب، ولا يمكن إعطاؤها حقها في مقال صحفي، لذلك فسأختصر بعض المفاهيم أدناه.
وعند الحديث عن العلاقة بين "النفط والسياسة" أو "السياسة والنفط" لابد من التنبيه أنه ليس بالضرورة أن تكون العلاقة مقصودة ومخطط لها، فقد يكون تأثير النفط في السياسة صدفة نتيجة عوامل طبيعية أو فنية، وقد يكون تأثير السياسة في النفط تحصيل حاصل بدون استهداف النفط. إلا أن المواضيع الأكثر أثارة للناس هي التي تكون فيه العلاقة مقصودة، مع سابق التصميم والتخطيط والترصد! والتي ينتج عنها دراما سياسية - اجتماعية كما حصل في الاتحاد السوفيتي، وإيران، وفنزويلا، وليبيا. وقد يكون مفاجئاً لكثير من الناس أن أكثر النفط "تسييساً" في العالم تاريخياً ليس النفط الإيراني، وانما النفط السوداني!
النفط والسياسة
يؤثر النفط في السياسة من خلال تبني حكومات الدول النفطية سياسات مبنية على مصالحها النفطية، وهذا يشمل استخدام النفط كوسيلة ضغط مباشرة أو غير مباشرة في المفاوضات التجارية وغيرها.
كما يؤثر النفط في السياسة من خلال قيام شركات النفط في الدول الديمقراطية بالتأثير في قرارات السياسيين وصناع القرار وراسمي السياسات لتحقيق مصالح هذه الشركات الداخلية منها والخارجية. كما تؤثر صناعة النفط في السياسة عندما تنقطع امدادات النفط وترتفع الأسعار نتيجة عوامل طبيعية وفنية، خاصة إذا حصلت قبل الانتخابات في الدول المعنية.
والملفت للنظر أن الولايات المتحدة تعتبر أسعار النفط المرتفعة مهددة لأمنها القومي، إذا نتج عن ارتفاع أسعار النفط تحجيم لخياراتها في السياسات الخارجية والأمنية. مثلا، إذا كان لديها 4 خيارات للتعامل مع إيران، وتم تقليص ذلك إلى خيارين، فإن الولايات المتحدة ترى أن ارتفاع أسعار النفط هدد أمنها القومي، وبالتالي تتبنى سياسات بناء على ذلك.
ولعل أهم تأثيرات النفط في السياسة هو تبني حكومات بعض الدول، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، مصالح شركات النفط العالمية التابعة لها في تعاملها مع الدول المنتجة للنفط. ولعل من أكبر الأمثلة على ذلك، الحصار البحري البريطاني على إيران بين عامي 1951 و1953 لمنع إيران من بيع نفطها الذي اعتبرته الشركة الانجلو - فارسية ملكاً لها.
كما لعب اللوبي النفطي دوراً كبيرا في العديد من الدول في صناعة القرارات التجارية والبيئية والتخطيط العمراني كي تصب في مصلحة شركات النفط، وأكبر مثال على هذا قيام الرئيس أوباما برفع الحظر عن صادرات النفط الأميركي للأسواق العالمية في عام 2015، وقيام الرئيس ترمب بالغاء القوانين البيئية التي وضعها الرئيس أوباما والمتعلقة بصناعة النفط، كما سمح ترمب بالتنقيب عن النفط في بعض المحميات الطبيعية التابعة للحكومة الأميركية. ومنها أيضا الخلاف السياسي الكبير حول أنبوب "كي ستون إكس إل" الذي يسمح لولاية ألبرتا الكندية بتصدير نفطها الى الولايات المتحدة.
ومن المعروف أن صناعة النفط الأميركية تضخ أموالاً طائلة لدعم الحملات الانتخابية لبعض المرشحين، خاصة من الجمهوريين، على مستوى الولايات، والإدارات المحلية، ليس لتمرير أجندة هذه الشركات بالضرورة، ولكن غالباً لمنع أعداء صناعة النفط من الوصول إلى هذه المناصب، لأن وصولهم قد يعني تبني قوانين مضرة بصناعة النفط، وأحيانا شبه قاتلة، كما حصل مؤخراً في ولاية كولورادو.
كما أن الأعاصير في خليج المكسيك أجبرت الحكومة الأميركية على اتخاذ قرارات معينة، أو أُجبرت عن التراجع عن قرارات معينة، في ضوء نقص الامدادات النفطية. كما أجبر نقص امدادات النفط الثقيل في عام 2002، على اثر الانقلاب في فنزويلا، المصافي الأميركية على استيراد النفط الثقيل السوري، رغم وجود حظر على استيراده من قبل الحكومة الأمريكية.
السياسة والنفط
النفط هو أحد الكرات الرئيسة التي يلعب بها الساسة، وذلك لأهميته الاستراتيجية في الاقتصاد والتجارة والحياة الاجتماعية. وقد بدأ اهتمام الساسة بالنفط منذ بداية القرن لكسر احتكار "ستاندارد أويل" التي أسسها جون روكفلر، ثم سرعان ما سنّوا القوانين التي تمكنهم من السيطرة على الصناعة، والقيام بالدور الذي كان روكفلر يقوم به، فوضعت حقول النفط وانتاجها تحت سيطرة مصلحة سكة حديد تكساس، وتم استخدام الحرس الوطني لإجبار المنتجين على وقف الانتاج.
ونتيجة قرار سياسي لزيادة سرعة السفن، تحولت البحرية البريطانية من الفحم إلى النفط، وترتب على ذلك نظرة تحتم سيطرة الحكومة البريطانية على شركة أنجلو - الفارسية (شركة النفط البريطانية الآن، بي بي).
وهناك أدلة تاريخية كثيرة على أثر السياسة في النفط، إلا أن هناك أحداثاً تاريخية أكثر أهمية من غيرها:
هجمات الطيارين اليابانيين الانتحارية (الكاميكاز) على ناقلات نفط الحلفاء ومنابع النفط ومنشآته في اندونيسيا وبروناي وغيرها بهدف ابطاء تحركات جيوش الحلفاء على مسرح العمليات الآسيوية.
انقلاب محمد مصدق في إيران وهروب الشاه، ثم فرض البحرية البريطانية حظر على صادرات النفط الإيراني، ثم قام الأميركيون بتنظيم انقلاب وإطاحة مصدق، ثم اعادة الشاه إلى منصبه بشروط مهينة. هذه الأحداث أوقفت صادرات النفط الإيرانية تماماً وقتها.
المقاطعات النفطية: أول ما يتبادر للذهن هنا هو المقاطعة النفطية التي قامت بها بعض الدول العربية عندما استخدمت سلاح النفط في الأعوام 1956، 1967، و1973، لتحقيق أهداف سياسية. إلا أن الواقع يشير إلى أن أكبر مستخدم لسلاح النفط هو الولايات المتحدة الأميركية، والتي فرضت عدداً كبيراً من العقوبات الاقتصادية على عدد كبير من الدول التي نتج عنها حظر للصادرات أو الواردات النفطية.
وفي الفترات الأخيرة قامت الحكومة الأميركية بفرض حظر نفطي على إيران وفنزويلا، والذي نتج عنه تقلب في أسعار النفط ثم ارتفاع كبير في أسعار النفط النفط الثقيل.
كما تم في الماضي اجبار شركات أميركية وكندية على مغادرة إيران والسودان، وخسارتها لأموال ضخمة، وكان من نتيجته دخول الصين إلى قطاع النفط في هذين البلدين.
الغزو العراقي للكويت وحرب الخليج: نتج عن الغزو العراقي للكويت فرض عقوبات من قبل الأمم المتحدة تمنع استيارد النفط العراقي والمتاجرة بالنفط الكويتي، الأمر الذي نتج عنه انخفاض المعروض العالمي وارتفاع أسعار النفط.
ومع بداية حرب الخليج قامت قوات صدام حسين بحرق عدد كبير من آبار النفط الكويتية، الذي نتج عنه خسائر ثروات ضخمة، وكارثة بيئية. ثم قام الحلفاء بتدمير جزء من البنية التحتية لصناعة النفط العراقية.
ومع انتهاء الحرب، وبهدف تحجيم صدام حسين، تبنت الأمم المتحدة برنامج "النفط مقابل الغذاء" ابتداء من 1997، والذي نتج عنه تحجيم نمو صادرات النفط العراقية.
وهنا لا بد من ذكر أن اسم البرنامج وحده عار على البشرية، وعار على الأمم المتحدة، حتى لو نظرنا إلى النظام العراقي وقتها نظرة عداء نتيجة اجرامه ووحشيته.
حادثة 11 سبتمبر، 2001: نتج عن هذه الحادثة انخفاض كبير في الطلب على النفط بسبب حظر الطيران في سماء الولايات المتحدة لعدة أيام. كما نتج عنه انخفاض حركة السفر بشكل عام من وإلى الولايات المتحدة. وكما يعلم الجميع، فقد نتج عن ذلك احتلال الولايات المتحدة لافغانستان والعراق، الأمر الذي أسهم في زيادة طلب الجيش الأمريكي على النفط.
انقلاب فنزويلا في إبريل 2002: حيث نتج عن اضراب عمال النفط في شركة النفط الفنزويلية ثم الانقلاب الذي استمر ثلاثة أيام فقط وقف صادرات النفط الفنزويلية والذي نتج عنه أزمة خانقة في معامل التكرير الأميركية التي تعتمد على هذا النفط. ومازالت تلك الحادثة تلقي بظلالها على ما يحدث في فنزويلا الآن لأن الرئيس السابق، هيوغو شافيز، طرد العمال والموظفين المضربين واستبدلهم بعمال وموظفين موالون له، الأمر الذي يفسر استمرار دعم القطاع النفطي للنظام الحالي.
الاحتلال الأميركي للعراق: قد يكون الاحتلال الأميركي للعراق هو الأكثر شيوعاً بين الناس كمثال على العلاقة بين السياسة والنفط. وقد نتج عن الاحتلال وقف إنتاج النفط العراقي لفترة، ثم ظل منخفضاً لفترة أطول. وتجدون أدناه شرح مختصر عن دور النفط في الاحتلال الأمريكي للعراق.
الربيع العربي: لعب الربيع العربي دوراً كبيراً في رفع أسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل بين 2011 و 2014 وذلك بسبب توقف إنتاج النفط أو انخفاضه في عدة دور منها ليبيا وتونس ومصر وسوريا واليمن. هذه أحداث سياسية لم ترتبط بالنفط ولم تستهدف النفط. ولكن نتيجتها كانت وقف أو تخفيض انتاج النفط.
دور النفط في الاحتلال الأميركي للعراق
الولايات المتحدة لم تحتل العراق لارواء عطشها من النفط كما أشيع! سيطرة الأميركيين على النفط العراقي تتنافى مع كل أهدافها الاستراتيجية في مجال الطاقة ومستقبل الطاقة.
إذاً لماذا سيطروا على منابع النفط، واستهدفوا زيادة إنتاج النفط؟
بما أن النفط كان مصدر قوة نظام صدام حسين، فقد كان منطقياً أن تتم السيطرة على الحقول العراقية. وبما أن النفط هو مصدر تمويل حكومة عراقية جديدة موالية للولايات المتحدة، فإنه من المنطقي أن يتم الاهتمام بالنفط لتمويل وتقوية هذه الحكومة.
وتأكيداً لهذه الفكرة، لم تحصل الشركات النفطية الأميركية إلا على جزء بسيط من العقود حيث أن أغلب التطوير قامت به شركات أوروبية وآسيوية في غياب واضح لأغلب الشركات الأمريكية.
الخلاصة: من السهل فصل النفط عن الماء، ولكن يستحيل فصل النفط عن السياسة.