مسألة منع تغريد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدت عند البعض كما منع تغريد العصافير، وعند آخرين منع نعيق البوم، وبين هذين الحدين العاطفيين يكمن "مشكل الحرية". فمن رأى التغريد حقاً، اعتبر أنه لا يجوز المساس به تحت أي دعاوى، ما يؤكد أن الحرية لا تتجزأ، ودعوات المنع مبرر لسحق حقوق الإنسان بدافع سياسي. وما يحمي الحرية ليس المنع، بل القانون الذي يحدد ماهية العدوان على الناس، وليس صاحب وسيلة إعلامية ما، يتبع هواه. فيما كان الرأي الثاني يقول، إن الدعوة إلى العنف وممارسته، تجعلان استباقهما ضرورياً، فنمنع العدوان. هكذا تبدو مسألة التغريد، في إثارتها مجدداً، المسألة العويصة التي تخصّ حق القول.
لقد أثارت قضية المنع، مسألة هي لبّ ما يحدث في الولايات المتحدة، وما يراقبه العالم متوجّساً مرعوباً، تحت طائلة عدوان مزدوج: عدوان جائحة تستشرس، وعدوان ترمبي على الحرية. وأعتقد أن تصريح المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، بخصوص منع التغريد، يجيء في هذا الإطار، أي أن ترمب مسألة تخص الحريات عند منعه من التغريد، لكن هو مسألة تخص القانون، حين يكون المنع قضائياً وليس جزافياً. وبهذا يعيد ترمب نفسه مسألة حقوقية، هو من يمارس العدوان قبل وبعد أن جعله الشعب الأميركي رئيساً. ولما أراد تنحيته، وجد الشعب نفسه في حيص بيص، فانقسم على نفسه، هو المنقسم دائماً، لكن يجمعه وفاق هش، وتغريد ترمب، رفع لشأن الهشاشة.
ما تثيره التغريدة، أنها تمس الجرح، جرح الحرية شاغل الناس، الذي ينعم به قليل منهم، حيث وجد ترمب كمغرد محام عن الحرية، يدافع عن حرية أن يغرد، وميركل مثلاً تدافع عن المبدأ طبعاً وغيرها الكثير من يرون مفارقة في العمل من أجل محاكمة ترمب، وفي الوقت نفسه منع تغريداته من دون محاكمة! المبدأ العام للقانون العادل، أن نحافظ على حقوق من نحاكم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هامش حول موقف المستشارة ميركل، أريد أن أذكر أن نجاح هتلر في الصندوق، لا يختلف عن نجاح ترمب، ولا شك في أن الصندوق مسألة ديمقراطية، لكن العدالة ليست مسألة ديمقراطية، وإن توفرت بشكل أفضل حيث تتوفر الديمقراطية. أعتقد أن دروس القرن العشرين، لا تغيب عن الذهن، حينما تثار مسألة الديمقراطية، لكن دروس الربع الأول من القرن الـ21 أكبر وأعظم، فنحن نتحدث عن مسألة الحق في التغريد، وما أدراك ما التغريد.
قال بايدن تعليقاً على غزوة الكابيتول الترمبية، إن الديمقراطية تحتاج دائماً إلى مدافع، وبالتالي الحفاظ عليها أصعب من نيلها، لكنه لم يردف القول عن حقوق الإنسان، التي انبثقت منها مسألة حق التغريد! ولذا رأت ميركل أنهما مسألة واحدة، لكن هي أيضاً قصيرة نظر، حين تراهما كذلك في زمكان معين، وهو صانع الديمقراطية: الغرب.
لكن الأزمة الحالية حلقة من أزمة كبرى، وهي أن الحرية لا تتجزأ، وإن جُزّئت فهي ليست هي. وإن تصور أنه من الممكن تحققها في تلك الحالة، فستكون ناقصة مهددة، ويمكن مراجعة دفاتر تاريخ الديمقراطية، وكم هدّدت من قبل والآن وهنا في وطن الديمقراطية. وما تغريد ترمب إلا استعادة لبوق هتلر، الذي يُحيي النعرات ورميم الأموات، أما فعله في غزوة الكابيتول/الكونغرس، وإن لم تنجح، فتبيين ساطع على أن الديمقراطية مهددة في عقر دارها، أمس واليوم وغداً.
والنكسات مُجزّئة للديمقراطية، المهد، الذي حمل ترمب واليمين المتطرف في دول الغرب، الذي بدوره، أصاب مهد الديمقراطية في كبد. من هنا، فإن الذي رأته أميركا، مجرد بروفة عاصفة عاتية في زمن كورونا، التي لا يعرف أحد ما بعدها.
أخلص إلى أنه: "عندما نسمع عن أعمال شجاعة نادرة في الحروب، فإنها إشارة إلى أن المعركة لا تسير باتجاه النصر. فعندما تجري الحروب، بحسب الخطة ويكون جانب ما رابحاً، لا تكون هناك أي حاجة إلى أعمال بطولية مميزة، عند ذلك الجانب. الشجاعة غالباً، ما تكون مطلباً، للجانب اليائس"، كما يقول عالم اللغة الأميركي غاي دويتشر.