عادت القبضة الحديدية بين القضاة والحكومة، بعد أن هددت نقابتهم بالإضراب في حال استمرار محاولات السلطة التنفيذية الهيمنة على المؤسسة القضائية، وكذا تجاهل مطالبهم الاجتماعية، وانتقدت ترنح معالجات الملفات القضائية بين سرعة مذهلة وتباطؤ قاتل، ما يشكل مساساً بمبدأ المساواة كأحد المبادئ الأساسية.
واتهم القضاة المحكمة العليا ومجلس الدولة بتعقيد وضع المؤسسة القضائية في البلاد، وجعل رجال ونساء القضاء عرضة للتجريح والتهكم من طرف أطياف مختلفة من المجتمع، واعتبروا أن الاستمرار في هذا المنحى يشوّه ما تبقى من سمعة القضاة، وحذروا في بيان من أن بقاء المسار على حاله "ينذر بانفجار الوضع وخروجه عن السيطرة، وسيناريو 2019 ليس ببعيد"، وأضافوا أنه "على الدولة في إطار الدستور الجديد لا سيما المادة 172 فقرة 4 منه، العمل على تحسين الوضعية المهنية للقضاة وجعلهم في منأى عن كل احتياج في أقرب الآجال".
وأشارت نقابة القضاة الى أن وضعيتهم المهنية والاجتماعية "تزداد سوءا في غياب تجسيد حقيقي لالتزامات سابقة، والتي ظلت متأرجحة بين تسويف البعض ومماطلة البعض الآخر، ربحاً للوقت وسعياً وراء مواقع وظيفية شخصية، أصحابها على دراية بها"، معتبرة أن تأخير الحركة السنوية للقضاة لسنة 2020، بعد كل الذي حدث خلال السنة الماضية، يوحي بوجود نية لتكريس منطق القهر البيروقراطي الممنهج اتجاه القضاة، فضلاً عن وجوب تسليط الضوء على مسالة إهدار الموارد البشرية والمالية المتمثل في بقاء 53 قاضياً بدون مناصب عمل منذ حوالى خمسة أشهر.
ودعت النقابة القضاة إلى المشاركة في إثراء النصوص القانونية المنظمة للقطاع، لا سيما القانون الأساسي للقضاء والقانون المنظم لعمل المجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للنقابة، كما شددت على الفئات الاجتماعية المساهمة بقوة في التأسيس لمنظومة قضائية تكرّس الأمن القضائي وتضمن احترام قواعد المحاكمة العادلة، بعيداً عن الانبطاح والغلو بما يكرس استقراراً حقيقياً.
مخاوف من عدالة "الهاتف"
يرى الحقوقي كمال عيساوي، في حديث خاص، أن تحركات القضاة منتظرة ومنطقية للاعتبارات التي جاءت في البيان، وقال إنه لا يمكن تحقيق استقلالية للقضاء وبسط العدالة في ظل أوضاع مهنية واجتماعية متدنية، حيث يواجه القضاة مشاكل على مختلف الجبهات، خاصة مع عودة تداخل الصلاحيات في الأشهر الأخيرة، والتي جعلت أصابع الاتهام موجهة للقضاة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعبر عيساوي، عن مخاوفه من عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه في عهد "العصابة"، حيث تسيّر الأمور عبر الهاتف، وقال إنه بات من الضروري الالتفات إلى المؤسسة القضائية بأكثر فعالية من أجل الخروج من الدائرة الضيقة التي تحاول جهات السيطرة عليها.
وبلغ التوتر بين القضاة والحكومة أوجه في أبريل (نيسان) 2020، بعد أن اتهمت نقابتهم وزير العدل بلقاسم زغماتي، بـ"الانتقام" منها بسبب إضراب شنته قبل ستة أشهر، وذلك بسجن قاض، ومضايقة آخرين ينتمون لهياكلها المحلية، وهي المواجهة التي تطورت إلى مطالبة تنظيم يدافع عن القضاة بـ"محاكمة عادلة" لزميل متابع بارتكاب جريمة، الأمر الذي كشف عن "أزمة" في قطاع القضاء.
"هجمات" الحراك واستنجاد بالرئيس
ليست المرة الأولى التي يدق القضاة ناقوس الخطر، فقد دعت نقابتهم، الرئيس عبد المجيد تبون، بصفته القاضي الأول في البلاد حسب الدستور، إلى التدخل لرفع الغبن عن القطاع، مؤكدة استعدادها المساهمة في تجسيد وعوده للجزائريين بإدخال إصلاحات عميقة على القضاء، في إطار مشروع الجزائر الجديدة، وذلك بعد أن رفضت الاتهامات الموجهة لهذه الفئة بكونها لا تتحرك إلا بإيعاز، وشددت أن القضاء سلطة مستقلة تباشر مهامها وفقاً لمبدأي الشرعية والمساواة.
وواجه القضاة "هجمات" خلال أشهر الحراك الشعبي بسبب "الشبهات" التي حامت حول علاقتهم بـ"العصابة"، استدعت إصدار عديد بيانات التبرئة، وقالوا إنهم يرفضون التعامل معهم كجهاز يتحرك بالأوامر تارة وبالاستدعاء تارة أخرى، وأعلنوا تمسكهم بحقهم الدستوري بأنهم سلطة مستقلة تباشر مهامها وفقاً لمبدأي الشرعية والمساواة، وبمنهج قوامه التجرد وغايته الإنصاف، وأوضحوا أنهم "يقفون على مسافة واحدة من جميع أطياف المجتمع، لكنهم سيقفون في وجه كل من يحاول المساس بهم، سواء تصريحاً أو تلميحاً أو بأي تصرف مادي آخر".
حصر المطالب في الشق الاجتماعي
وفي السياق، يعتبر الحقوقي سليمان شرقي، أن نقابة القضاة هي تنظيم يسهر أساساً على ترقية الأوضاع الاجتماعية لمنتسبيه، ووضع النقابة القانوني باعتبارها من بين الفئات الممنوع عليها ممارسة الإضراب كحق نقابي تصعيدي للضغط على السلطة التنفيذية للحصول على المزيد من المكاسب وتحسين الوضع المادي للقضاة، ليس أمامها إلا التهديد بوقف العمل، وقال إنه "لو كانت السلطة القضائية حقاً سلطة ومستقلة، فلم التصعيد بالتهديد؟ ولماذا تخاطب الحكومة "، مبرزاً "أننا أبعد ما نكون من الاستقلالية، والدستور الجديد كرس هذه التبعية للسلطة التنفيذية بفرض المزيد من الهيمنة المتجلية برئاسة رئيس الجمهورية للمجلس الأعلى للقضاء، وكذا صلاحيات التعيين التي يحظى بها حصرياً في القطاع".
ويواصل شرقي، أن ما يؤكد حصر مطالب النقابة في الشق الاجتماعي منه، هو أن النقابة زكت التعديل الدستوري الذي لم يمض على إقراره رسمياً ودخوله حيز التنفيذ سوى أسبوعين، متسائلاً "ما الجديد الذي تطالب به النقابة في هذا المجال عدا الحصول على مزيد من الامتيازات المادية بعيداً عن دورها الطبيعي في الضغط نحو تكريس دولة القانون والحريات عن طريق انتزاع استقلالية أكبر"؟
إعادة النظر في تشكيلة المجلس
وفي المقابل، أكدت وزارة العدل أنها تلتزم بتمكين القاضي من راتب يحفظ كرامته، وتعزيز مبدأ واجب التحفظ حتى يكون القاضي بمنأى عن كل الشبهات، وتكريس مبدأ توزيع القضاة عند التخرج على الجهات القضائية، وفقاً للترتيب الاستحقاقي. أما بالنسبة للمجلس الأعلى للقضاء، فأعلنت أنه سيتم إعادة النظر في تشكيلة المجلس بإيجاد أخرى أغلبيتها من القضاة المنتخبين، وتمتعه بالاستقلالية الإدارية والمالية.
وقال مصدر في الوزارة رفض الكشف عن هويته، إن مطالب نقابة القضاة سيتم التكفل بما يستحق الاهتمام به، خصوصاً في الشق الاجتماعي، على الرغم من أن الوزارة تتعاطى بشكل إيجابي مع مختلف انشغالات القضاة، مضيفاً أن بعض النقاط تتحفظ عليها الوزارة وتعتبرها سياسية أكثر منها قضائية.