اختار التشكيلي المغربي المعروف ماحي بينبين (مواليد 1959) أن يعود في الأيام الأخيرة إلى مراكش، مسقط رأسه، ليعرض لوحاته ومنحوتاته الجديدة تحت عنوان يحيل إلى الحالة الراهنة أو الزمن الصعب الذي نعيشه. فقد سمى معرضه الجديد "أفق مائل"، متسائلاً حول الزمن المقبل، الذي يبدو غامضاً. فلا أحد بالفعل يعرف ماذا يخبئ الأفق لنا بعد هذه التجربة الوبائية التي غيرت كثيراً من المفاهيم، وأثرت سلباً على الحالة الاجتماعية والاقتصادية، لينسحب هذا التأثير بالضروة على المجال الفني.
تحمل الأعمال الجديدة لماحي بينبين رسائل ذات بعد إنساني بالأساس، وهي رسائل تنسجم مع مشروعه الفني الذي بدأه منذ ثلاثة عقود. وثمة انحياز واضح إلى الإنسان في مكابداته اليومية، وتعاطف كبير مع الكائنات التي تعيش تحت قهر ما، مهما اختلف نوع هذا القهر ومجاله.
وعبر أعماله الفنية، يحس المتلقي أن بينبين لا يكتفي بنقل حالات الضغط الاجتماعي والاقتصادي والفكري إلى لوحاته فحسب، بل إنه يقدم نقداً للوضع الذي لا ينسجم وما يطمح فيه إنسان اليوم من حرية ومن تقدير ونبذ لكل أشكال الإهانة.
في إحدى المنحوتات يجلس رجلان عاريين يطالع كل واحد منهما كتاباً، لكنهما يوليان ظهريهما لبعض. ولا نعرف إن كانت هذه المنحوتة تبشر بعودة زمن القراءة أم بقطيعة إنسانية جديدة، في لوحة مماثلة يبدو الرجلان متشابكين ويحاولان معاً الخروج من الإطار. إن هذه الرغبة في الانعتاق من قيد ما، تتكرر في أعمال ماحي بينبين الجديدة في اللوحات كما في المنحوتات. وثمة في الغالب إطار يتخذ أحياناً شكل قفص يوجد فيه كائن يحاول التخلص منه. تيمة الخلاص تبدو مهيمنة في معرض ماحي بمراكش، فالأجساد، وأحياناً الوجوه، تبدو في وضع سيزيفي مشدودة إلى وثاق أو محاصرة بإطار في الدلالة على تحملها عبئاً ما، وهي في الآن ذاته تكافح من أجل التخفف من هذا العبء.
الفرح عبر الألوان
سألنا التشكيلي المغربي عن السر الكامن وراء حضور تيمة الصراع والرغبة في الانعتاق، فأكد لنا أنه تعمد خلق هذا الصراع مع الإطار رغبة منه في بلورة فكرة أساسية تتقاطع مع اللحظة الوبائية التي نعيشها.
"طال الحصار، ونريد أن نخرج من الإطار الذي يحد حركتنا"، يقول ماحي بينبين. وعن معرضه الجديد، الذي اختار أن يقيمه في مدينته التي عرفت خلال الأشهر الأخيرة أرقاماً قياسية في الإصابة بفيروس كورونا، يقول ماحي لـ"اندبندنت عربية": "فوجئت فعلاً بالإقبال الكبير على أعمالي. فقد تم اقتناء أكثر من 80 في المئة من اللوحات والمنحوتات في الأيام الأولى، بينما يستمر المعرض إلى نهاية شهر مارس (آذار). وأنا سعيد جداً، فهذا يجعلنا نؤمن بأن الناس ما زالوا في حاجة إلى الفن، وليس بمقدور هذا الظرف الرهيب أن يقطع علاقتهم به".
سألنا التشكيلي والنحات المغربي عن اختياراته الجديدة في الألوان فصرح لنا بأنه حاول الابتعاد ما أمكن عن اللون الأسود، واختار بالمقابل الأحمر والأصفر وباقي الألوان المبهجة، رغبة منه في بث الأمل لدى المتلقي، بدلاً من تكرار خطاب الشكوى والتذمر.
يقول ماحي: "لقد حذفت الإطار، لأن الكائنات التي توجد بداخله مختنقة وتريد أن تتنفس، وهذا انعكاس لواقعنا ولما نعيشه اليوم. نريد نحن أن نخرج من الحالة الرهيبة ومن الحصار الذي نعيشه بسبب الوباء". كما سألناه عن الرسائل التي يمكن أن تحملها أعماله الجديدة فأخبرنا بأنه يدعو الناس عبر لوحاته ومنحوتاته الأخيرة إلى الخروج من جديد إلى الحياة وإلى التشبث بها وبالقيم الإنسانية الجميلة.
من الرياضيات إلى التشكيل
جاء ماحي بينبين إلى عالم التشكيل من مجال آخر يبدو بعيداً عنه، فالرجل متخصص في الرياضيات، درسها ودرّسها بفرنسا. وربما يكون للهندسة والقياس امتدادت إلى عالمه الفني. فقد يلاحظ جمهوره ومتابعوه حضور المربعات في أعماله المعروضة بمراكش. وعموماً يحضر الجسد كعنصر أساسي في مختلف الأعمال. غير أنه ليس الجسد الذي يحيل إلى الإيروس، بل هو الجسد الذي يعاني ويكافح ويقاوم كل ما يحط من قيمته أو ما يمس تلك الروح الخبيئة فيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شارك ماحي في فعاليات فنية عديدة، معظمها خارج العالم العربي: فرنسا، وكورسيكا، والنمسا، وبريطانيا، وألمانيا، وإسبانيا، وغيرها، كما نظم عديداً من المعارض في الولايات المتحدة الأميركية التي أقام فيها خمس سنوات خلال التسعينيات.
تحول أستاذ الرياضيات إلى واحد من أهم فناني عصرنا، داخل المغرب وخارجه. ويرجع الفضل في ذلك إلى موهبته الفردية بالأساس، ثم إلى خبرته الكبيرة التي راكمتها مرجعيته المعرفية من جهة، وجولاته العديدة من جهة أخرى، وهو الذي اختار باكراً التطواف والإقامة في عدد من بلدان العالم بأوروبا وأميركا قبل أن يعود مطلع الألفية الجديدة ليستقر في المغرب.
اللافت أيضاً أن ماحي بينبين روائي معروف يكتب باللغة الفرنسية، وقد ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، وتحظى بمقروئية واسعة. وهي أعمال تناولت في الغالب تلك القضايا التي تشغل الحياة السياسية والاجتماعية لدى المغاربة كالإرهاب والفقر والتسول والاعتقال السياسي والهجرة السرية، ومن أهم رواياته "نجوم سيدي مومن"، و"جنازة الحليب"، و"الله يخلف"، و"مؤنس الملك"، وقد حازت هذه الأعمال عدة جوائز ذات طابع دولي آخرها جائزة البحر الأبيض المتوسط عن روايته الجديدة "شارع الغفران".