صدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فئات واسعة من الجزائريين وأيضاً الفرنسيين، بموقف مفاجئ عقب تسلّمه التقرير الذي أعده المؤرخ المكلف من طرفه، بنجامان ستورا، حول ملف "الذاكرة التاريخية المشتركة" بين البلدين، إذ أفادت الرئاسة الفرنسية بأنها تعتزم القيام بـ"خطوات رمزية"، لمعالجة ملف حرب الجزائر، لكنها "لن تقدم اعتذارات".
وشددت الرئاسة على أن ماكرون سيشارك في ثلاثة احتفالات تذكارية في إطار الذكرى الستين لاستقلال الجزائر في 1962، وهي اليوم الوطني للحركي، وهم الجزائريون الذين حاربوا إلى جانب فرنسا، في 25 سبتمبر (أيلول)، ثم ذكرى قمع تظاهرات الجزائريين بباريس في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1961، وأخيراً توقيع اتفاقات إيفيان في 19 مارس (آذار) 1962، التي أفضت إلى إعلان وقف إطلاق النار والاستقلال.
وعود ماكرون
ويأتي تقديم المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا تقريره، في إطار الوعود التي قطعها ماكرون، وهو أول رئيس فرنسي ولِد بعد حرب التحرير الجزائرية، بشأن طي ملف الذاكرة، للانتقال إلى مرحلة جديدة هادئة بين البلدين، حيث رافقها تصرف مماثل من الجزائر بتكليف الرئيس تبون، مستشاره المؤرخ عبد المجيد شيخي، بالعمل على الملف نفسه، للوصول إلى نقاط مشتركة تُنهي "الانسداد" الذي يمنع ترقية العلاقات إلى مستوى تطلعات الشعبين، وفق تصريحات مسؤولي البلدين.
وشدد ستورا على تعزيز الرغبة في خلق جسور وتداول وتفكيك الذاكرة، من خلال فتح الأرشيف، وتحديد الأماكن، والبحث عن المفقودين، والحفاظ على المقابر. وقال إنها أشياء بسيطة جداً وعملية وواضحة للغاية، لكنها كلها مسائل خلافية وثقيلة بين فرنسا والجزائر. لافتاً إلى أنه مكلف بتقديم تقرير يتضمن توصيف تاريخ العلاقات بين البلدين، لا كتابة تاريخ مشترك للجزائر.
العلاقات بين البلدين
من جانبه، يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية سمير محرز، "فرنسا من خلال خطابها الرسمي وبتعاقب كل نزلاء قصر الإليزيه، ترى أن ملف الذاكرة من الماضي لا يجب فتحه، بل يجب طيه والانتقال إلى آفاق جديدة في العلاقات بين البلدين. وهو ما يعد تهرباً نحو الأمام، كون الاعتراف بالجرائم يعتبر إهانة رمزية وفشل دبلوماسي فرنسي".
وأضاف محرز، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "تسارع باريس أمام كل ضغط داخلي إلى التصريحات والاستفزازات الدبلوماسية". لافتاً إلى أن "الخطوات التي أبرزتها الإدارة الفرنسية تتمثل في تبادل الزيارات وتثمين التعاون في المجالين السياسي والاقتصادي رمزية، بينما يبقى موضوع الذاكرة أكبر حاجز وعائق أمام تطور العلاقات بين البلدين".
وحول مستقبل العلاقات بين البلدين في ضوء مستجدات ملف مصالحة الذاكرة، أكد أستاذ العلوم السياسية أن علاقة الدولتين "لن تدخل نفقاً مظلماً"، مرجعاً الأمر إلى "التشبيك التاريخي المعقد وحجم الجالية الجزائرية الموجودة في فرنسا".
انهيار الآمال الجزائرية
وعلقت الجزائر آمالاً كبيرة على التعاطي الإيجابي للرئيس الفرنسي ماكرون منذ مجيئه إلى سُدة الإليزيه، وقبل ذلك في أثناء حملته الانتخابية، وأشار الرئيس تبون، في حوار سابق خصّ به الوكالة الفرنسية، إلى أنه مع الرئيس ماكرون، "نستطيع أن نذهب بعيداً في التهدئة وحل المشكلات المتعلقة بالذاكرة. إنه رجل نزيه ويسعى إلى تهدئة الوضع".
وتابع أنه "يريد أن يخدم بلاده فرنسا، لكن في الوقت نفسه السماح لعلاقتنا أن تعود إلى مستواها الطبيعي، علاقات بين بلدين مستقلين وسياديين". مبرزاً أن "ماكرون صادق في كل ما يقوله، وهو رجل نظيف تاريخياً".
كما أعرب، في مقابلة سابقة مع صحيفة "لوبينيون" الفرنسية، عن أمله في أن يعمل مستشاره الخاص شيخي والمؤرخ الفرنسي ستورا، "في جو من الحقيقة والصفاء والهدوء، لحل هذه الخلافات التي تسمّم علاقاتنا السياسية ومناخ الأعمال وحسن التفاهم".
تاريخ بين الجلاد والضحية
ويرفض أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر رابح لونيسي، مصطلح "فشل مصالحة الذاكرة". مبرراً ذلك بأنه يحتوي على "ظلم للجزائر، ويساوي بين الجلاد والضحية". ويصف ما حدث بأنه "تراجع من ماكرون عن رؤيته للاستعمار الفرنسي للجزائر، فبعدما عده جريمة وأعلن سعيه لطي الملف، انقلب على عقبيه بمجرد اقتراب موعد الرئاسيات الفرنسية".
وأردف "ملف الذاكرة تتحكم فيه بقوة لوبيات ما زالت تحلم بجزائر فرنسية، ورد الرئاسة الفرنسية يمكن تصنيفه في خانة استغلال بعض الضعف في الجزائر الناتج من أزمة اقتصادية، كما لا نستبعد محاولة إضعاف الرئيس تبون الذي راهن على تحقيق مكاسب لصالح الجزائر في ملف الذاكرة".
وبرأي لونيسي فإن كل ذلك "يصب في صالح طرف داخل النظام الجزائري مستعد لخدمة مصالح فرنسا، خصوصاً بعد تنويع الجزائر علاقاتها مع دول أخرى"، مشدداً على أن العلاقات بين البلدين دخلت "النفق المظلم"، باعتبار أن ملف الذاكرة "عامل رئيسي، ولا يمكن لأي مسؤول جزائري تجاوزه".
ماذا تتضمن مقترحات ستورا؟
وبحسب ما تسرّب حول تقرير المؤرخ بنجامين ستورا، الذي سلمه للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فإنه يحوي 22 مقترحاً لترميم العلاقة بين فرنسا والجزائر، وهي: تواصل الاحتفالات التذكارية، مثل الـ19 من مارس 1962 الذي يرمز إلى وقف إطلاق النار بعد توقيع اتفاقات إيفيان، وأيضاً اقتراح الـ25 من سبتمبر (أيلول) من كل سنة، يوماً لتكريم الحركي، والـ17 من أكتوبر 1961 بشأن قمع العمال الجزائريين في فرنسا.
كما يجري تنظيم عملية جمع أقوال الشهود الذين تضرروا بشدة من هذه الحرب لإثبات مزيد من الحقائق وتحقيق مصالحة الذكريات. واقتُرح إقامة تمثال للأمير عبد القادر، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، في منطقة أمبواز الفرنسية، حيث يمكن وضع النصب التذكاري بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر في 2022.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضمن التقرير أيضاً اعتراف فرنسا باغتيال المحامي الجزائري علي بومنجل، الزعيم السياسي للقومية الجزائرية. والعمل على إصدار "دليل المفقودين - جزائريين وأوروبيين"، وتحديد موقع قبور الجزائريين والفرنسيين المختفين خلال حرب التحرير. وشدد على مواصلة العمل المشترك الخاص بمواقع التجارب النووية الفرنسية في الجزائر بين عامي 1960 و1966 ونتائجها وزرع الألغام على الحدود.
وأوصى ستورا بمواصلة نشاط اللجنة المشتركة للخبراء العلميين الجزائريين والفرنسيين المكلفة بدراسة الرفاة البشرية لمقاتلين جزائريين من القرن التاسع عشر، محفوظة في متحف التاريخ الطبيعي بفرنسا، والتفاوض مع الجزائر حول تنقل الحركي وعائلاتهم بين البلدين. وكذلك تنصيب لجنة من المؤرخين حول عمليات اغتيال فرنسيين بعد الاستقلال.
وشمل التقرير أيضاً ترميم مقابر الأوروبيين واليهود بالجزائر، وتسمية شوارع باسم شخصيات من وراء البحار، وجرد المحفوظات والأرشيف الذي أخذته فرنسا أو تركته في الجزائر، ومنح تأشيرات لـ10 باحثين مسجلين في أطروحات عن تاريخ الجزائر والحقبة الاستعمارية كل عام.
كما يستفيد الطلاب الفرنسيون من تأشيرة دخول الجزائر متعددة وتسهيل الوصول إلى أرشيف الجزائر، وإنشاء مجموعة "فرنسية - جزائرية" ضمن دار نشر كبيرة، لوضع أسس مشتركة للذاكرة، وإنشاء صندوق لترجمة الأعمال الأدبية والتاريخية من الفرنسية إلى العربية ومن العربية إلى الفرنسية، قد يدعم هذا الصندوق أيضاً كتابات باللغة البربرية.
ويمنح التقرير مساحة أكبر لتاريخ فرنسا في الجزائر في المناهج الدراسية، وإنشاء مكتب شباب فرنسي- جزائري للترويج لأعمال المبدعين الشباب، وإعادة تنشيط مشروع متحف تاريخ فرنسا والجزائر، وكذلك تنظيم مؤتمر دولي هذا العام مخصص للشخصيات التالية: فرانسوا مورياك، وريموند آرون، وجان بول سارتر، وأندريه ماندوز، وبول ريكور.
على أن يجري تنظيم معرض بمتحف لاريخ الهجرة حول الاستقلال الأفريقي هذا العام. وكذلك إنشاء لجنة مؤرخين فرنسية- جزائرية مسؤولة عن تاريخ مدفع "بابا مرزوق".