على الرغم من الرقة الواضحة التى يمتاز بها الشاعر المصري محمد الكفراوي حقيقة لا مجازاً، فقد فاجأني فى ديوانه "مكان مشبوه" (دار خطوط وظلال- عمان) بأنه "مولع بالأذى" – وهو عنوان القصيدة الأولى في الديوان – وأنه يصحو أسيان لعدم قدرته على أن يفقأ عين أرملة أو يسلخ جلد طفل أو يغرس أسنانه في لحمه على سبيل التسلية والتغيير. وأكثر من ذلك فإنه يرى الشياطين التي تتراقص في المرآة أمام عينيه "طيبة لدرجة مخجلة". هناك إذن حالة من العداء المستحكم بين الشاعر والعالم، فالآخر – بتعبيرات سارتر – هو "الجحيم". هذا الآخر أو الآخرون الذين لا يستطيع الشاعر الصفح عنهم إلا بعد أن يكفروا عن ذنوبهم. يقول في قصيدة "صفح": "تريدون الصفح؟/ اثبتوا لي إذن كم تحبونني/ قدموا لي أحشاءكم على طبق من فضة/ اقتلعوا عيونكم من محاجرها واعطوها لي تذكاراً بسيطاً".
إننا أمام ما يمكن أن نسميه بجماليات العنف التي ترجع إلى تلك النزعة الانتقامية التي تبادل العنف بأضعافه والتي تجلّت أيضاً في محاولة الشاعر إحياء غرض "الهجاء" الذي يأخذ طابعاً اجتماعياً حاداً؛ حين يصف أصدقاءه بأنهم "خونة من ظهور خونة"، وأنهم يجرحون أقرب الناس إليهم لمجرد الاستمتاع. وبروح العامية المصرية الساخرة يعنون إحدى قصائده بـ"يستحقون الضرب بالصُرَم"، وهو يعني هؤلاء الذين "ينامون ملء جفونهم/ دون أن تؤرقهم الشرور/ التي ارتكبوها طوال النهار"، ويجعل من كلمة "حثالة" عنوان قصيدة أخرى؛ لأنهم "لوّثوا أطفالنا/ علموهم/ أن يحبوا البنادق والرشاشات/ بدلاً من الأحصنة وعرائس الحلوى".
وحوش العالم
بهذه السطور يأخذ "الآخر" معنى أشمل ليدل على كل مشعلي الحرائق والحروب وهو ما يتأكد من قصيدة "فِخاخ" التي تتحدث عن وحوش "العالم" بأسره حين يقول: "الوضع مأساوي والله يا إخواني/ لن ينجو أحد من هذه الفِخاخ/ كل يوم تهاجمنا وحوش العالم/ وتدفعنا للسقوط بكامل إرادتنا". وكأن الإنسان مُطارَد – دائماً – بلعنة أبدية لا يستطيع الفكاك منها، فهو يخرج من مأساة ليصطدم بأخرى أدهى وأمر، وذلك لأننا "محكومون بلعنة أبدية/ وسيل من الهزائم/ لن يتوقف حتى نلفظ النفس الأخير". وهى حالة تفضي – حتماً – إلى العبثية التي تتمثل في الحروب التي فقدت معناها ومضمونها وغايتها اللهم إلا الرغبة في إشعالها، وهو ما يذكرنا بقول الشاعر قديماً: "وأحياناً على بكر أخينا/ إذا ما لم نجد إلا أخانا". وهكذا يظل الإنسان غارقاً في معاركه الصغيرة والكبيرة.
واللافت أن الشاعر يحتفل بحالة التوحش التي أصبح عليها بوصفه تمثيلاً للإنسان عموماً؛ يقول: "بين رشفة وأخرى/ تنبت لي مخالب/ تنبت أنيابي/ تحمر عيناي/ ...../ تهتف أعضائي احتفالاً/ بالوحش الجديد الذي أصبحتُه". ويبدو الشاعر كما لو كان داخل مؤامرة كونية، فهو محاصر بكل شىء من قبيل الحشرات المقيتة التي تحوم حوله والسحالي العملاقة التي تنتظر لحظة ضعف لتنهش جسده ولا يملك إزاء هذه الحالة سوى أن يبحث "عن مخرج آمن"، وأن يضع فوضى العالم "في مفرمة الزمن"؛ لهذا فمن الطبيعي أن يشعر بأنه "وحيدٌ للغاية" وأن الآخرين مجرد شذرات باقية "من كون يتداعى". وكما جعل صلاح عبد الصبور من الحزن موضوعه الكبير فإن شاعرنا يتوقف كثيراً أمام الألم الذي هو نتيجة لوحدته ولفوضى العالم التي تحيط به والذي يصفه بأنه ألمٌ غامض معجون برائحة الدم وأنه ابن الوحدة وصنو الفراغ. وكما كان يقول المعري "تحطمنا الأيام حتى كأننا/ زجاج ولكن لا يعاد له سبك"، تبدو علاقة شاعرنا بالزمن قريبة من هذه الصورة حين يقول "أنت منسحق لا محالة/ تحت مطرقة الزمن".
سريالية كافكاوية
يبدو مرور الوقت أمراً مضجراً وأننا لا ننتهي من حياة حتى نبدأ "في بناء حياة أخرى ملؤها الضجر". وفي هذه الأجواء الكابوسية تحضر سريالية كافكاوية حين يتخيل الشاعر نفسه مرمياً في سريره حتى يأتي العالم إليه في "هيئة صرصار ضخم بحجم المنزل كله/ يقترب مني مثل وحش ويفتح فمه ويبتلعني". ولأن "مطرقة الزمن" لا مفر منها فإن الموت يبدو قريباً، في حادث سير تافه مثلاً، كما تبدو أجسادنا ذاتها "قابلة للانفجار في أية لحظة"، و"وجبة دسمة للحشرات والدود".
لا يأتي هذا الموت إلا بعد خذلان الجسد لصاحبه كما يبدو في قوله: "قدماي تحملانني بالعافية (لاحظ أثر العامية المصرية)/ ..../ دماغي تيبّس مثل شجرة عاقر تنتظر رحمة الحطّابين". بل إنه يسعى إلى إماتة الجسد ويتشبث بفكرة الفناء النقية الخفيفة خلاصاً من هذا الوجود الثقيل الذي يشبه "دابة مزعجة لا تعي شيئاً ولا تكف عن الحركة". ومع كل هذا لا يمكن القول إن الشاعر استسلم لهذه الحالة العبثية العدمية. ولعل أولى وسائل الخلاص منها اعتماده على السخرية، فبعد أن ينصح صديقه – وربما نفسه – بأن يقتنص كل فرصة تقربه من ذاته وأن يحذر الحُفر والمطبّات يقول – خاتماً قصيدة "وصايا" – "لا تقل لي بعد ذلك/ أنني لم أحذرك يا خفيف الظل". فالبحث عن الذات والتمسك بالأمل وفرادة الروح سوف يفضي إلى أن نصبح في النهاية "أشجاراً فارهة تستعصي على الزوال"، كما يصبح الحب طريقاً آخر للتصالح مع الذات والعلم "فما دمنا معاً علينا ألا نشعر بالوحدة/ على الوحدة أن تأتى وتغادر من دون أن نراها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما كان يتحدث إبراهيم ناجي عن الحب الذي علّمه أن يحب الناس والدنيا جميعاً يقول الكفراوي: "روحي العقيمة الأسيانة ستكون دوماً في خدمتكم أيها الأحبة". ويتحول الأصدقاء الذين وصفهم سابقاً بالخونة إلى ملاذه الأخير داعياً إياهم إلى أن ينسوا ذلك الفتى الضال الذي كانه ويتجاوزوا عن كل المِحن التي نبتت بينه وبينهم وأن يصادقوا "الطيور والحيوانات وحتى الحشرات/ وكأنها جزء من العائلة".
وكما قيل – عن حق – "إن الصمت عبادة وتطهيرٌ للروح"، واقتراباً من الذات نجد الشاعر يخاطب أصدقاءه قائلاً: "اسكتوا حتى تسمعوا صوت العالم يمر بخفة/ عبر أرواحكم"، وكأنه بهذا كله يعود إلى بكارة الأشياء بعد أن صوّر بشاعة العالم من حوله.