عادت موسكو لتقف وجهاً لوجه أمام حقيقة لم تكن حتى الأمس القريب لتعترف صراحة بارتياحها إليها. ورجع الرئيس فلاديمير بوتين إلى تصريحه السابق الذي اضطرت إليه الأحداث السابقة وما شهدته المعركة الرئاسية في الولايات المتحدة، في شأن قبول روسيا خيار الشعب الأميركي. وإلى حين اللقاء المرتقب الذي ينتظره العالم أجمع ولا تتعجّله موسكو، تطرح القيادة الروسية ما سبق وأعلنه الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن عن احتمالات قبوله، ويتعلق بالنظر في تمديد فترة معاهدة "ستارت" التي ينتهي موعد سريانها في الخامس من فبراير (شباط) المقبل.
ونقلت وكالة أنباء "ريا نوفوستي" تصريحات الجنرال أناتولي أنطونوف، سفير روسيا في الولايات المتحدة، وقال فيها إن ظروف وباء كورونا لا تسمح بالقدر الكافي من الحديث عن آفاق أي لقاءات سياسية، ومنها اللقاء المأمول بين الرئيسين بوتين وبايدن. وأضاف أن جدول لقاءات بوتين مع زعماء البلدان الأجنبية سيتوقف إلى حد كبير على ما يمكن أن تشهده الفترة القريبة المقبلة من أحداث وتطورات. وفيما توقّع السفير الروسي لدى واشنطن أن يبدأ الرئيس الأميركي جدول اتصالاته الخارجية بلقاءات واتصالات مع حلفائه الغربيين، كشفت جين بساكي، المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض عن أنه من المرتقب أن يبدأ بايدن اتصالاته مع شركائه وحلفائه، وعن أن الاتصال الوحيد الذي جرى بين الرئيسين تمثّل في التهنئة التي بعث بها بوتين إلى المرشح الديمقراطي في 15 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وعلى الجانب الآخر، تتوقّع موسكو أن يعكف بايدن على دراسة اقتراح بوتين حول عقد لقاء قمة يجمع رؤساء البلدان الخمسة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن لمناقشة آخر التطورات الدولية والجهود المقترحة للتعاون المشترك في مجال مكافحة وباء كورونا، ويمكن أن يبدأ بمجرد أن تسمح به الظروف. على أن هناك من الأخبار التي تقول إنه من غير المحتمل أن تشهد الفترة القريبة المقبلة أي زيارات خارجية للرئيس الأميركي، عدا احتمالات توجّهه إلى كندا المجاورة، نظراً إلى الظروف التي تفرضها عملية مكافحة كورونا، إلى جانب زيارتين لكل من بريطانيا لأسباب تتعلق بقمة السبعة الكبار واسكتلندا للمشاركة في المؤتمر السادس والعشرين للبلدان أعضاء اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في شأن تغير المناخ.
وفي هذا الصدد، تبدو موسكو أكثر تحفظاً من ذي قبل وهي التي يظل كثيرون من مراقبيها يتباكون على هزيمة دونالد ترمب. وكان ديميتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين أكد أن بوتين لم يخطط بعد للاتصال ببايدن، وأن الولايات المتحدة مشغولة بمشكلاتها الداخلية.
وأعلنت ماريا زاخاروفا، المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية صراحة أن بلادها "لا تتوقع تحسناً ملموساً في العلاقات بين البلدين، نظراً إلى أن الناس هم الناس ولا أحد منهم كشف عن تغيّر توجهاته".
وعلى الرغم من ذلك، كشف سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسية عن أن الإدارة الأميركية الجديدة تعلم باستعداد موسكو للحوار في مجالات التعاون، معرباً عن أمله في أن يشكّل بايدن فريقاً من المحترفين وليس من هواة الحملات الدعائية. وفي الأثناء، اعتبر نائبه للشؤون الأميركية سيرغي ريابكوف أنه من السابق لأوانه انتظار تغييرات جوهرية في العلاقات الروسية الأميركية، على اعتبار أن كثيرين من أركان السياسة الأميركية يستندون إلى عناصر العداء لروسيا.
لكن ذلك كله لا يمنع توقعات وآمال موسكو في أن تُقْدِم الإدارة الأميركية الجديدة على ما سبق وأعلنه بايدن في شأن احتمالات التفكير في تمديد فترة معاهدة "ستارت 3" حول الحد من الأسلحة الاستراتيجية، التي كان قد وقّع عليها الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما مع نظيره الروسي السابق دميتري ميدفيديف في 2010 في براغ.
وكانت موسكو تقدّمت باقتراح بتمديد فترة المعاهدة لخمس سنوات أخرى من دون قيد أو شرط، أو على الأقل لمدة عام يمكن للطرفين في غضونه التباحث حول العناصر الرئيسة لهذه المعاهدة التي تتعلق بمجال الأمن الدولي والاستقرار الاستراتيجي.
وقالت الخارجية الروسية إن ذلك "يمكن أن يسمح للبلدين بالتفرغ للبحث المشترك عن إجابات للأسئلة المطروحة حول الأمن الدولي والاستقرار الاستراتيجي". وأضافت أن الجانب الروسي أوجز رؤيته بصدد معاهدة "ستارت" في مذكرته إلى الجانب الأميركي. وفي هذا الصدد، ينتظر الجانب الروسي استيضاح مدى استعداد إدارة بايدن للتراجع عن شروط سلفه ترمب حول ضرورة انضمام الصين إلى هذه المعاهدة. ومن المتوقع أن تكون موافقة الجانب الأميركي على تمديد المعاهدة لفترة أخرى بادرة حسن نيّة من جانب إدارة بايدن، يمكن على أساسها البدء ببناء جدار الثقة المفقودة، وهو ما ستكشف عنه المباحثات المرتقبة حول هذا الموضوع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما عن تفاصيل الرؤية الروسية وما طرحته في هذا الشأن، فتتلخص في ما قدمته وزارة الخارجية الروسية من اقتراحات حول ضرورة العمل المشترك من أجل صياغة توازن جديد للأمن يمكن أن يراعي مجمل عناصر الأمن الاستراتيجي، بما في ذلك التطور في مجال التسلح والتكنولوجيا الحربية. وذلك كله يعني أن موسكو تقترح على الإدارة الأميركية الجديدة الاهتمام أكثر بأوجه التسلح النووي وغير النووي الدفاعي والهجومي، القادر على تقرير المهمات الاستراتيجية إلى جانب الحيلولة دون سباق التسلح في الفضاء الكوني. ولم يغفل الجانب الروسي في مذكرته إلى نظيره الأميركي عن اتهام الرئيس السابق ترمب بأنه "ظل يعمل في انتظام وبشكل منهجي من أجل تدمير معاهدات الحد من التسلح".
ولعله من اللافت في هذا الصدد أن أنتوني بلينكن، المرشح لمنصب وزير الخارجية الأميركية والمعروف بعدائه الشخصي للرئيس بوتين بما أطلقه عليه من نعوت وأوصاف، كشف عن مواقف تبدو قريبة من التوجهات الروسية في خصوص قضايا الحد من التسلح. وننقل عن بلينكن بعضاً مما تضمّنه حديثه إلى لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ حول أن بلاده تنوي العمل من أجل تمديد فترة معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية. وقال إن الإدارة الأميركية الجديدة ستبذل جهودها من أجل تنفيذ ذلك بمجرد الانتهاء من مراسم تنصيب الرئيس. وذكر أنه لا يعرف بعد لأي فترة تنوي إدارة بايدن تمديد المعاهدة، في الوقت الذي يطرح الجانب الروسي تمديدها لخمس سنوات. لكنه أكد أنه وبغض النظر عن المدة المقترحة للمعاهدة، فإنها تظل تتناسب وظروف المصالح القومية للولايات المتحدة الأميركية، مقرّاً بأنها لن تكون هدية يقدّمها الجانب الأميركي لروسيا. وأضاف أن من البنود المقترحة للمعاهدة في صيغتها الجديدة ما يتضمن النص على الحق في إجراء التفتيش والمراقبة، وهو ما لم يكن متاحاً من قبل لأي من الجانبين الروسي أو الأميركي.
وقد حرصت وسائل الإعلام الروسية على إبراز هذه التصريحات، وقالت المصادر الأميركية إن لويد أوستن، المرشح لمنصب وزير الدفاع في الإدارة الجديدة، عبّر عن موقف مماثل، مؤكداً أن الرقابة على الأسلحة النووية تتفق مع مصالح الولايات المتحدة. ونقلت عنه ما قاله أمام لجنة الاستماع في مجلس الشيوخ ومفاده بأنه في حال تعيينه في المنصب المقترح، سيطلب معلومات مفصلة عن برنامج التسلح النووي الروسي، وإذا ما كان يتفق مع منظومات التسلح التي تنص عليها معاهدة "ستارت 3". وتلك كلها نقاط إيجابية تسمح بقدر من التفاؤل، قد يبدد ما يخيّم من غيوم تحجب الرؤية، لكنها في الوقت ذاته تسهم في إشاعة المخاوف والتوقعات بارتباك العلاقة خلال المئة يوم الأولى من ولاية بايدن على أقل تقدير.
ومن هذا المنظور، يتوقع مراقبون التريث في سياسات موسكو وتقديراتها تجاه الإدارة الأميركية الجديدة، على الأقل إلى حين الإعلان رسمياً عن أعضاء الإدارة ومواقف الصقور فيها ممن ناصبوا روسيا وزعيمها العداء خلال ارتباطاتهم السابقة بالإدارات الديمقراطية منذ سنوات عملهم قريباً من الرؤساء الأميركيين بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما. ومن هؤلاء بلينكن الذي سبق ونعت بوتين بأقذع الأوصاف واتهمه وإدارته بالفساد واستغلال النفوذ والثراء غير المشروع.
ومن هذا المنظور، يكشف مراقبون في موسكو عن تركيز اهتمامهم على ضرورة أن يعير الكرملين الأهمية الكبرى في علاقاته مع البيت الأبيض، قضايا الحد من التسلح وضمان الأمن والاستقرار الاستراتيجيين، مع التأكيد على ضرورة الحيلولة دون التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان الفضاء السوفياتي السابق. وذلك سيكون النقطة الخلافية المركزية بين بايدن المعروف بعلاقاته الوثيقة السابقة مع أوكرانيا، وما قد يتبع ذلك من صراعات ضمنية داخل الفضاء السوفياتي السابق.
وكان فيدور لوكيانوف، رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع والمدير التنفيذي لمنتدى فالداي المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الكرملين، توقّع التقارب بين موسكو وواشنطن في شأن الحد من التسلح، تحديداً في ما يتعلق بتمديد فترة معاهدة "ستارت 3". وكشف عن احتمال تزايد حدة المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا في الفضاء السوفياتي السابق ومنطقة الشرق الأوسط مع تولّي بايدن مقاليد الحكم في البيت الأبيض.