تونس تعاود الانتفاض في وجه السلطة الحاكمة بعد "ثورة الياسمين". والقراءات تتعدد في ثورات ما سمي "الربيع العربي" بعد عشر سنين على البداية الناجحة في تونس. لا فحسب في الشرق الأوسط، حيث التجربة باللحم الحي، بل أيضاً في العالم المنقسم بين مراقب ومتدخل.
والفارق واسع جداً بين براءة الذين نزلوا إلى الشارع سلمياً مطالبين بالخبز والكرامة والحرية وبين الذين سطوا على الشارع بالعنف وأداروا اللعبة حرباً من أجل أهداف متناقضة. والحصاد جاء، على العموم، مختلفاً عن الزرع، ولا مفاجآت في السيناريوهات التي رأيناها، إلا للأبرياء من التجارب. لا في لجوء الأنظمة إلى القمع والعنف والاستعانة بالقوى الخارجية وتوظيف التنظيمات المتشددة لضمان البقاء عبر التخويف بها. ولا في تحويل "الربيع العربي" إلى "شتاء إسلامي" قاد تنظيم "داعش" إلى إعلان "دولة الخلافة" في مساحات واسعة من العراق وسوريا. ولا في تجاهل الأسباب المحلية التي تراكمت ودفعت إلى الانتفاض، والذهاب كالعادة إلى الخيال و"نظرية المؤامرة" التي يقال إنها وراء زعزعة الأنظمة لمصلحة العدو. ولا طبعاً في اندفاع قوى إقليمية ودولية إلى التدخل عسكرياً مباشرة أو بالواسطة، دفاعاً عن بعض الأنظمة وضد أخرى، ضمن مخطط جيوسياسي أو بشكل عشوائي.
في العدد الأخير من "فورين أفيرز"، كتب مارك لينش أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن أن "الموجة الثورية لم تكن سراباً عبر. فالمنطقة تغيرت. الإسلام السياسي انتهى. انتصار الأوتوقراطيين لم يجلب الاستقرار. لا عودة إلى بداية الربيع العربي في 2011. لكن التحركات السلمية ستحدث لأن أسباب الثورة لم تتبدل والانتفاضات لم تنته. أما درس 2011، فهو أن الشرق الأوسط أبعد من قدرة أي قوة خارجية على السيطرة". وكان قد كتب من قبل في المجلة نفسها أن "الثورات لم تخلص إلى ما توقعه كثيرون، لكنها خلقت نظاماً عربياً جديداً: القوى التقليدية الكبرى مثل مصر سوريا والعراق لا تكاد تعمل، والدول الخليجية الغنية مثل السعودية والإمارات تزدهر وتنمو".
وفي كتاب تحت عنوان "الشتاء العربي: تراجيديا"، يقول نوح فيلدمان أستاذ القانون في هارفارد ومهندس الدستور العراقي إن "الربيع العربي كان خيبة أمل. الخطاب البطولي مهّد الطريق إلى ظاهرة أكثر ظلمة. لكن الديمقراطية لم تمت. فهي مؤجلة وتحتاج إلى جيل آخر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أكثر فصاحة من كل القراءات. تونس، حيث نجحت "ثورة الياسمين"، تتظاهر من جديد وتضيق بالنظام البرلماني في حنين إلى النظام الرئاسي. فالثورة أعطت الحرية، لكن الحكومات، على اختلاف تشكيلاتها، فشلت في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وتقليل نسبة البطالة بين الشباب.
وفي السودان، حيث نجحت الموجة الثانية من "الربيع العربي" بالشراكة بين الشعب والجيش في إسقاط نظام الإسلام السياسي، يبدو المخاض صعباً وطويلاً، لأن "التركة" ثقيلة جداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
أما حيث فشل "الربيع العربي"، فإن الحروب الأهلية هي البديل، سواء بقي النظام في السلطة كما في سوريا أو سقط كما في ليبيا واليمن. وهي حروب أهلية "مركّبة" تتداخل فيها القوى المحلية والإقليمية والدولية. سوريا مدمرة تتقاسمها خمسة جيوش خارجية وتقاتل فيها ميليشيات من معظم بلدان العالم. بعضها إلى جانب النظام، وهي التي جاءت بها إيران، حيث أسس الجنرال قاسم سليماني 60 لواء تضم 60 ألف مقاتل بينهم "فاطميون" من شيعة أفغانستان و"زينبيون" من شيعة باكستان، و"حزب الله" اللبناني وفصائل من الحشد الشعبي العراقي، كما قال مؤخراً الجنرال رحيم صفوي، كبير المستشارين العسكريين للمرشد الأعلى علي خامنئي. وبعضهم الآخر أصوليون متشددون يقاتلون النظام والمعارضين معاً من أجل إقامة "حكم الله". ليبيا مقسمة بين جيوش وميليشيات ومرتزقة ضمن الصراع الجيوسياسي وعلى النفط والغاز في شرق المتوسط. وفي اليمن، حرب أهلية وخارجية بسبب انقلاب الحوثيين على الشرعية بدعم من إيران وتسليحها. "داعش" لا يزال يقوم بعمليات في العراق وسوريا. و"القاعدة" تسيطر على محافظة أدلب، ولها خلايا نائمة في العراق واليمن.
وليس أبعد من التسويات السياسية التي تحاول الأمم المتحدة الإشراف على التحضير لها سوى قدرة أي طرف على الانتصار العسكري. والضحايا هي الشعوب، وفي طليعتها الشباب الذي نزل إلى الشارع سلمياً في بداية "الربيع العربي". حتى لو حصلت التسويات، فإن هذه البلدان المدمرة عمرانياً والمعرضة للخراب الاجتماعي تحتاج إلى 30 سنة للعودة إلى المستوى الذي كانت عليه عام 2011.