خلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأميركي في 19 يناير (كانون الثاني) الحالي، التي سبقت التصديق على تعيينه وزيراً للخارجية في الإدارة الأميركية الجديدة، قال أنتوني بلينكين، إنه يريد اتفاقاً نووياً "أطول" و"أقوى" مع إيران، وتعهد بالتشاور مع الحلفاء الإقليميين مثل إسرائيل ودول الخليج في حال استئناف المفاوضات مع إيران بشأن الاتفاق، الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في مايو (أيار) 2018 في ظل إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب.
وبينما يتمتع بايدن بتركة من العقوبات الاقتصادية التي تركها سلفه في إطار حملة الضغط القصوى، فإن بلينكين أكد أن وزارة الخارجية لن ترفع التجميد المفروض على الأموال الإيرانية، وأكد ما صرح به بايدن في الأشهر القليلة الماضية بشأن امتثال طهران أولاً للالتزامات التي يفرضها الاتفاق النووي قبل أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات أو تعود للمفاوضات. ليس ذلك فحسب، فأفريل هاينز، المرشحة لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية، والتي تم التصديق على تعيينها خلال الجلسة، أضافت أنها تتفق مع الرئيس بأنه "يتعين علينا أيضاً النظر في قضايا الصواريخ الباليستية التي حددتها والأنشطة الأخرى المزعزعة للاستقرار التي تشارك فيها إيران".
تقاطعت آراء بلينكين وهاينز مع الجنرال لويد أوستين، الذي تم التصديق على تعيينه أيضاً لمنصب وزير الدفاع، والذي قال بشكل واضح لا لبس فيه إن "إيران لا تزال عنصراً مزعزعاً للاستقرار في المنطقة... وتشكل تهديداً لشركائنا في المنطقة"، مؤكداً أيضاً ضرورة أن تستوفي إيران أولاً الشروط المحددة للاتفاق النووي من أجل عودة الولايات المتحدة، فضلاً عن ضرورة التعامل مع ملف الصواريخ الباليستية.
هذه التعليقات من كبار مسؤولي إدارة بايدن توحي بنقيض ما حملته التوقعات السابقة بشأن اتخاذ بايدن سياسات أقل حدة كثيراً حيال إيران، من سلفه السابق، والعودة إلى سياسات حقبة الرئيس باراك أوباما حين عمل بايدن نائباً للرئيس. لكن مثل هذه التوقعات لم تأخذ في الحسبان المستجدات على الصعيد الداخلي بالنسبة للنظام الإيراني أو على الصعيد الإقليمي في ما يتعلق أولاً بنفوذ طهران ووكلائها في دول المنطقة، فضلاً عن "اتفاقات إبراهام" التي تفرض واقعاً جديداً على المنطقة، والسياسات الأميركية في التعامل مع الحلفاء العرب وإسرائيل. وهو ما ألمح إليه أوستن عندما أثنى في شهادته أمام الكونغرس على اتفاقيات السلام بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان والمغرب، قائلاً إنها "تفرض مزيداً من الضغط على إيران".
ويتفق المراقبون على أن بايدن سيركز أولاً وأخيراً على إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات ومنعها من الحصول على سلاح نووي، فيقول ألكس فاتانكا، مدير برنامج إيران لدى معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إنه بغض النظر عن الرئيس المقيم في البيت الأبيض فإن أنشطة إيران الإقليمية وبرنامجها النووي وموقفها من جيرانها حلفاء الولايات المتحدة، هي ما تثير قلق واشنطن دائماً. مشيراً إلى أن ما سيتغير هو النهج في التعامل مع طهران وسبل الحل، معتبراً أن حملة الضغط القصوى التي طبقها ترمب على الرغم من أنها نجحت في عزل طهران وتكبيدها الخسائر الاقتصادية، غير أنها فشلت في نهاية المطاف، لأنها لم تسفر عن تغيير إيران لمسارها والعودة للتفاوض حول اتفاق جديد.
نفوذ اقتصادي
ويقول هنري روم، المحلل الرفيع لدى مجموعة "أوراسيا"، لأبحاث المخاطر السياسية، إن بايدن ورث نفوذاً اقتصادياً كبيراً على إيران من خلال نظام العقوبات الأكثر شمولاً الذي تركه ترمب. وفي حين فشل الأخير في تحويل هذا النفوذ إلى تقدم دبلوماسي بسبب افتقاره لاستراتيجية واضحة أو مسارات واقعية لتحقيقها، فإن بايدن لا يبدو هكذا. ويضيف أنه لا ينبغي الاستهانة بالقوة الاقتصادية الأميركية، فإلى جانب الفساد المستشري في إيران ووباء فيروس كورونا، تسببت العقوبات الأميركية في انهيار الاقتصاد الإيراني، وزيادة التضخم، وتآكل القوة الشرائية للإيرانيين العاديين.
وأدت الإجراءات الأميركية إلى عزل إيران فعلياً عن النظام المالي الدولي واستهدفت القطاعات الرئيسة، بما في ذلك الطاقة والتصنيع. ولا تزال صادرات النفط، وهي أهم مصدر للعملة الصعبة لإيران، معطلة إلى حد كبير بسبب التهديد بالعقوبات الأميركية. حاولت الحكومة تعزيز القطاع غير النفطي والتركيز على التجارة في السلع التي لم تطالها العقوبات. لكن الميزانية الأخيرة التي اقترحها الرئيس الإيراني حسن روحاني لا تزال تعتمد بشكل كبير على النفط، بما يعني أن استقرار الاقتصاد يعتمد على المدى الطويل في جزء كبير منه على العلاقات مع واشنطن.
فك الارتباط
ربما يقدم تغير المشهد في الشرق الأوسط أوراقاً عدة يمكن لبايدن استغلالها في التعامل مع إيران، التي باتت تواجه واقعاً أكثر تعثراً بالنسبة لوكلائها في المنطقة، ومع ذلك لا يتوقع فاتانكا أن يُفرط الرئيس الأميركي الجديد في الثقة في ما لديه من أوراق.
ويقول مايكل يونغ، مدير تحرير في مركز "مالكوم كير" لدى مركز كارنيغي للشرق الأوسط، مؤسسة بحثية، إن الشرق الأوسط، على امتداد ولايتَي باراك أوباما ودونالد ترمب، اضطر إلى التكيّف مع فك الارتباط الأميركي في المنطقة، ما ولّد ديناميكيات إقليمية جديدة طرحت علامات استفهام حول عدد كبير من الافتراضات التي كانت من المسلّمات قبل فترة. لذا سقطت أمور عدة كانت من الثوابت، واحدة منها ما كان يوصف بـ"محور المقاومة" ذلك التحالف الذي بات "مبنياً على الرمال"، فسوريا مدمّرة ويتربّع "حزب الله" فوق لبنان المنهار اقتصادياً، حيث يبلغ العداء للحزب وأجندته مستويات كبرى، ويرفض عدد متزايد من الشباب، وكذلك شخصيات حكومية ودينية رفيعة، المنظومة الفاسدة التي تسيطر عليها إيران وتعاني خللاً وظيفياً في العراق، ويرأس الحوثيون في اليمن بلاداً مفككة ومنكوبة، وتسيطر "حماس" على قطاع غزة الذي هو أشبه بسجن كبير.
فلسنوات طويلة اعتادت إيران أن تستفيد أحياناً من مستوى الشعبية و"القوة الناعمة" في العالم العربي، المستمدة من الشارع العربي وبعض الجهات الفاعلة، وكانت حرب إسرائيل و"حزب الله" عام 2006 مثالاً قوياً، لكن يقول بهنام بن طالبلو، زميل مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، البحثية في واشنطن، إنه بالنظر إلى دعم إيران الوحشي والطويل للنظام السوري، فقد تآكل هذا الدعم بشكل كبير. ويضيف أن أحد مقاييس فشلها هو عسكرة سياستها الإقليمية. وشكلت اتفاقيات "أبراهام" متغيراً هاماً، إذ يتم دفع الخصوم السابقين ليصبحوا أصدقاء بالنظر إلى التهديد الهائل الذي تشكله إيران. فالديناميكيات في المنطقة متقلبة، وغير ثابتة على الإطلاق، وفي هذا الصدد، فإن توسع إيران في العالم العربي يتعرض أخيراً للرفض والنبذ من قبل العديد من الجماهير، سواء في العراق أو لبنان أو مصر أو في أي مكان آخر كمشروع "إمبراطوري".
تذمر عراقي
وعند النظر خارج الحدود الإيرانية حيث تحتفظ طهران بنفوذ في العديد من دول المنطقة عبر وكلائها من الميليشيات المسلحة، فربما تواجه طهران مزيداً من نقاط الضعف.
لطالما ألقى المراقبون والسياسيون في الولايات المتحدة وخارجها باللوم على الغزو الأميركي للعراق عام 2003، في تمدد وتقوية النفوذ الإيراني ليس في العراق فحسب، لكن في أنحاء أخرى من المنطقة عبر وكلائها. فيقول إتامار رابينوف، من مركز "بروكينغز"، "إن الغزو الأميركي للعراق عام 2003 سهّل الحملة الإيرانية الإقليمية. فبإطاحة واشنطن عدو إيران اللدود صدام حسين، أزالت العقبة أمام تمدد نفوذها ونقل السلطة في العراق إلى الغالبية الشيعية، لتجد إيران مجالاً خصباً لبسط سطوتها"، كما بقي العراق مركزياً في المشروع الإيراني لتصدير الثورة.
فبعد عام 2003، أظهرت إيران قدرة أكبر من الدول الغربية على اختراق السياسة والمجتمع العراقي، وإنتاج "القوة الذكية" من خلال التلاعب بمزيج من سياسات الهوية، وشبكات المحسوبية والقوة التي أصبحت سائدة في البلاد، فتجديد الأضرحة والقنوات العربية الإخبارية التي تروج لها كانت أمثلة على التواصل الواسع مع العامة، بحسب ورقة بحثية لمركز "الشرق الأوسط" التابع لكلية لندن للاقتصاد في يوليو (تموز) 2020.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن التدخل الإيراني أصبح مصدراً رئيساً لشكوى العراقيين منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. ويقول مركز "الشرق الأوسط" إن رأس المال الاجتماعي المحتمل لإيران تقلص لأسباب عدة، بينها الضغط الشعبي الإيراني على حكومته لوقف التمويل الخارجي في الوقت الذي تعاني فيه البلاد ضائقة اقتصادية محلية شديدة، والحملات الإعلامية من المعارضين السياسيين في العراق ضد القوة الناعمة الإيرانية، فضلاً عن أنه بعد هزيمة تنظيم "داعش" الإرهابي أصبح يُنظر إلى الجماعات شبه العسكرية العراقية المتحالفة مع إيران على أنها قوة اعتداء وليست تحرير.
كان النفوذ الإيراني داخل الحكومة العراقية، جنباً إلى جنب مع التخصيص المُسيس لوظائف القطاع العام، مصدراً أساسياً للشكوى التي حفزت حركة احتجاج الشباب العراقي. وأظهر المتظاهرون ميولاً سياسية مختلفة، خصوصاً بعد مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني وزعيم "كتائب حزب الله" الشيعية أبو مهدي المهندس في غارة أميركية في الثالث من يناير 2020، لكن يبدو أن الغالبية تفضل إنهاء المحسوبية والفساد داخل المناصب العامة، فضلاً عن الاعتراض على البطالة وعدم كفاية الخدمات العامة.
ويشير مايكل نايتس، المختص بالشؤون العسكرية والأمنية للعراق والخليج وزميل برنامج "ليفر" لدى معهد واشنطن، في ورقة بحثية بعنوان "العودة إلى الظلال؟ مستقبل كتائب حزب الله ووكلاء إيران في العراق"، إلى فشل "كتائب حزب الله" في منع وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الوزراء، وتكبّدها هزيمة كبيرة في وجه الدعم الكبير لترشيحه من علي السيستاني، ومقتدى الصدر، والمجتمع الدولي، على الرغم من اعتقادها بأنه كان متواطئاً في استهداف سليماني والمهندس.
"حزب الله" اللبناني
وكما كان الغزو الأميركي سبباً لإطلاق إيران مشروعها في العراق، فإن غزو إسرائيل للبنان عام 1982 زوّد "الحرس الثوري" الإيراني بفرصة كبرى. فخلال الحرب، ساعد الحرس الثوري في تنظيم الشيعة اللبنانيين المسلحين في جماعة مسلحة موالية لإيران، وصفت في وقت لاحق بـ"حزب الله". وعمل الحرس الثوري الإيراني على تسليح وتدريب وتقديم الخدمات اللوجستية للحزب منذ الثمانينات وحتى وقتنا الحاضر. نما "حزب الله" تدريجاً ليصبح أقوى منظمة سياسية في لبنان، مع لعب أدوار اجتماعية وأمنية وتجارية واسعة، بل بنواح كثيرة أصبح كدولة داخل الدولة.
وعلى الرغم من القوة والنفوذ التي تمتع بهما "حزب الله" اللبناني داخل بلاده طيلة عقود، لكن الانفجار المدمر الذي هز مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) الماضي، أطلق العنان لغضب مكبوت لسنوات، كان يتفجر جزئياً بين الحين والآخر على شكل احتجاجات شعبية تصعد ثم تعود للهدوء. وقدم استطلاع رأي لـ"معهد واشنطن"، أجري في الفترة الأخيرة في لبنان، أن الدعم الشعبي لـ"حزب الله" تراجع بشكل ملحوظ حتى في أوساط الشيعة الذين يشكلون ثلث عدد السكان.
ويظهر منحى الدعم تراجعاً في شعبية الحزب بين السكان الشيعة بحوالى 20 نقطة في 2020 عن عام 2017. كما يعكس المنحى بشكل شبه أكيد تنامي الغضب من دور الحزب في الفساد والترهيب والأزمة الاقتصادية الحادة التي تنهش البلاد، والذي تغذيه مسؤولية الحزب المتصورة عن الانفجار المدمر في بيروت. كما أن 79 في المئة من الشيعة يؤيدون "الاحتجاجات المناهضة للفساد" التي عمت شوارع لبنان، حتى وإن أعربت غالبية (66 في المئة) عن رأي إيجابي للغاية إزاء "حزب الله". في الوقت نفسه، هوت شعبية الحزب بشكل أكبر في أوساط الطائفتين المسيحية والسنية في لبنان. فنسبة 16 في المئة فقط من المسيحيين وثمانية في المئة من السنة تعبر الآن عن رأي "إيجابي بعض الشيء" إزاء "حزب الله".
اتفاقيات إبراهام
كما لا يمكن فصل الوضع الإيراني عن اتفاقيات السلام العربية - الإسرائيلية، إذ كانت المخاوف المشتركة بين إسرائيل والدول العربية من إيران وأنشطتها الإقليمية أحد المحفزات الرئيسة لـ"اتفاقيات إبراهام". وجاءت هذه الاتفاقيات لتضفي طابعاً رسمياً على سنوات من التعاون الأمني والاستخباراتي بين هذه الدول.
ويقول الكاتب الأميركي جاي سولومون، إنه بالنظر إلى تعهد الرئيس بايدن بإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، وبناء اتفاقيات أوسع لتقييد برنامج طهران الصاروخي ودعمها للميليشيات في الشرق الأوسط والجماعات الإرهابية، فعليه أن يستفيد من التحالف المتعاظم بين إسرائيل والدول العربية كوسيلة لزيادة الضغط على طهران وإبراز عزلتها الإقليمية. فمن شأن هذا التكتل الاقتصادي والأمني الناشئ أن يكون بمثابة رمز للإمكانات التي تنطوي عليها المنطقة، إذا تم استبدال القتال والتطرف بالتكامل والنشاط الاقتصاديين. ويذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك، إذ يرى أنه في ظل هذه الشراكة الجديدة، يجب أن تساعد إدارة بايدن على صياغة هذه الاتفاقيات الجديدة المقترحة مع إيران.
افتراضات قديمة
واحدة أيضاً من الافتراضات التي يرى المراقبون الأميركيون أنها تغيرت ولم يعد يمكن لإدارة بايدن اعتناقها، هو الاعتقاد بأن إيران تمتلك حقاً مشروعاً في ممارسة نفوذها في العالم العربي. فحتى الرئيس الأسبق أوباما بدا وكأنه يصدّق ذلك، انطلاقاً مما قاله لجيفري غولدبرغ من مجلة "ذي أتلانتيك" عام 2016، مشيراً إلى أن المنافسة الإقليمية، التي أسهمت في تغذية الفوضى والحروب التي تُشَن بالوكالة في سوريا والعراق واليمن، "تتطلب منا أن نقول لأصدقائنا، وكذلك للإيرانيين، إن عليهم التوصل إلى طريقة فعّالة لتشارُك المنطقة وإرساء نوع من السلام البارد".
ويقول يونغ إنه مع تسلم بايدن سدة الرئاسة، يجب إعادة النظر جوهرياً في ذلك الافتراض. فعلى أي أساس يُعتبر هذا الاعتقاد صحيحاً، لا سيما أن إيران لا تُقدم نموذجاً مقبولاً للعرب؟ لا بل أن وعودها الإقليمية تكاد تكون كارثية في تداعياتها، إذ كانت "المقاومة" مرادفاً للخراب، و"التحرير" مرادفاً للقمع. ويشير إلى أن إيران استغلت الانقسامات في الدول العربية التي تغلغلت فيها، وعمدت الدول الحليفة لها إلى تقويض مؤسساتها الوطنية من أجل توسيع نفوذ طهران، ما أسهم في تفكّكها.
التنين الحذر
لكن إذا كانت إيران فقدت بعضاً من نفوذها الإقليمي نتيجة لتطورات محلية وإقليمية عدة، فإنها بدأت تتطلع إلى شراكات دولية قوية يعتقد البعض أنها تدعمها في مواجهة الضغط الأميركي. فالصيف الماضي أبرمت إيران والصين اتفاقية على مدى 25 عاماً تشمل التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية. وانطوت الاتفاقية على تعهد بكين باستثمار 400 مليار دولار لتحسين البنية التحتية للنفط والغاز والنقل في إيران، وهي الاستثمارات التي تأتي في إطار مشروع الصين الضخم مبادرة "الحزام والطريق".
حظيت الاتفاقية على اهتمام واسع في واشنطن، واعتبرها البعض دلالة على "سياسة الصين التوسعية" التي تسمح لبكين بنشر جنودها في العالم، أو أنها دليل على فشل حملة الضغط القصوى ضد إيران. ومع ذلك، فإن وقائع السياسات الصينية في المنطقة تبلغ عن سيناريو آخر، فضلاً عن الحاجة للنظر إلى الصورة الأكبر المتعلقة بمبادرة "الحزام والطريق"، حيث تبرز الصين كقوة رائدة في الشرق الأوسط عبر مشروعات البنية التحتية التي تستثمر الشركات الصينية فيها عشرات مليارات الدولارات.
وبموجب "الحزام والطريق" أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للجامعة العربية وإيران وشريكاً رئيساً لإسرائيل. يجمع المشروع بين الحزام الاقتصادي بطريق الحرير البري، والطريق البحري الذي يربط الصين بأوروبا عبر جنوب شرقي آسيا، وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، وهو يغطي 70 في المئة من السكان في العالم، و75 في المئة من احتياطيات الطاقة المعروفة.
وعلى الرغم من تلك الأهمية الاقتصادية الضخمة للشرق الأوسط بالنسبة إلى الصين، يظل الحزب الحاكم بعيداً من التورط عسكرياً في هذه المنطقة، كما أن التمثيل الدبلوماسي في التوسط لحل النزاعات والصراعات حتى بين حلفائها في المنطقة، يظل ضئيلاً للغاية ورمزياً. فعلى الرغم من إرسالها مبعوثين خاصين لسوريا، وللصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ولقضايا أخرى لضمان مكان لها على الطاولة الدبلوماسية، ظلت هذه المشاركة محدودة ومن دون أثر يُذكر.
وتصف دراسة بعنوان "الصين في الشرق الأوسط: التنين الحذر"، صادرة عن مؤسس "راند" للأبحاث، بكين بأنها "تنين حذر جداً يخشى التورط في نزاعات الشرق الأوسط أو التقرب كثيراً من أي بلد في المنطقة". وتقول إن الصين رفضت تقديم سياسة أو استراتيجية مفصلة وعلنية للشرق الأوسط خوفاً من إغضاب دولة أو أكثر في المنطقة. بل تسير ضمن نهجها الذي يركز على توسيع نطاق العلاقات الاقتصادية، وتحديداً علاقات التجارة وتحسين النقل. وبالفعل من خلال العودة إلى طرق التجارة البرية التي تعود إلى قرون مضت، في ما يعرف بـ"طريق الحرير"، عزز القادة الصينيون رؤية تنموية اقتصادية مشتركة وفائدة متبادلة عبر البر والبحر.
ويقول بن طالبلو إنه لطالما كانت الصين وإيران شريكين مقربين، ولكن الأمر الذي يجب تذكره دائماً هو أن إيران شريك صغير جداً. على هذا النحو، فإن إيران بحاجة إلى الصين (وروسيا) أكثر من العكس. ومن ثم ستستمر هذه الديناميكية على ما هي عليه، حتى مع اندفاع إيران لاحتضان "الشرق" في السنوات المقبلة بعلاقات سياسية وعسكرية واقتصادية أعمق.