لعل من غريب أمر رواية "الكرنك"، التي أصدرها نجيب محفوظ أوائل سبعينيات القرن العشرين، أنها حين صدرت على حلقات في صحيفة "الأهرام"، لم تُثر من الضجة و"الغضب اليساري" ولو جزءاً بسيطاً من ذلك "الغضب" الكبير الذي أثارته حين تحولت إلى فيلم في عام 1975 من إخراج علي بدرخان، وإنتاج ممدوح الليثي، وتمثيل سعاد حسني ونور الشريف. ولئن كنا تعمدنا هنا ذكر هذه الأسماء فالسبب بسيط: لقد كان أصحابها قبل "الكرنك"، وبعده، من غلاة الناصريين، وثلاثة منهم كانوا يعتبرون حتى في صفوف اليسار الناصري، وكانوا تحديداً منتمين إلى التيار الفكري السياسي نفسه الذي حل غضبه على الفيلم، بينما وقف من الرواية حين صدورها موقفاً معاتباً غريباً أكثر منه غاضباً بصورة جدية. فهل لأنه كان يحق لمحفوظ ما لا يحق لغيره؟
الفيلم تفوق على الرواية
مهما يكن من أمر، لا بد من إشارة أولى هنا إلى أمر قد يبدو غريباً للوهلة الأولى، وهو أنه في حين يمكن القول إن رواية محفوظ كانت ولا تزال تعتبر من أعماله الضعيفة؛ متناً وسياقاً وتركيباً، وتكاد تكون خطية، لا شك أن الفيلم المأخوذ عنها أتى مميزاً ليس في سياق سينما علي بدرخان فحسب، بل في سياق السينما المصرية السياسية بصورة عامة، ناهيك بأن أداء سعاد حسني ونور الشريف أتى مميزاً.
ومن الواضح أن في هذا تأكيد للفكرة القائلة إن أقل الأعمال الأدبية شأناً هي عادة الأقدر على التحول إلى أفلام جيدة، بينما يعز هذا على الأعمال الكبرى. أما بالنسبة إلى الفارق الكبير بين تلقي الرواية والفيلم من جانب فريق جعل من نفسه ذات حقبة، رقابة فوق الرقابات ورجم الفيلم، فمسألة تبدو لنا هنا بالغة الأهمية، ولكن من ناحية مواربة. فمحفوظ كان معروفاً دائماً بمواقفه العنيدة ضد تعسف السلطات وغياب الحرية والديمقراطية. ومن هنا كان يمكن غض النظر عن "فعلته"، أما صانعو الفيلم فكانت طعنتهم لمساوئ الحكم الناصري أقسى وأشد فاعلية بالنظر إلى أنهم "من أهل البيت"، أي إنهم لا يمكن اتهامهم بـ"العمالة للإمبريالية والرجعية والصهيونية" كما جرت العادة، ولا تزال، تجاه كل نقد صائب ومحق!
خطأ في التوقيت
ولكن بما أننا هنا نتناول الرواية لا الفيلم، لا بأس من الإشارة إلى أن الغضب ضدها لم يكن ضئيلاً إلا بالمقارنة مع الغضب الذي واجه الفيلم. فهي أيضاً نالت نصيبها، وربما لأن توقيت صدورها لم يكن ملائماً إذ إن محفوظ الذي لم يعرف بشطارته في لعب الألعاب التكتيكية، لم يتوانَ عن كتابتها وإصدارها بعد شهور من موت الرئيس جمال عبد الناصر وفي معمعان المعركة الشرسة التي كان يخوضها خليفته الرئيس أنور السادات ضد خصومه من ناصريين ويساريين.
وكان من الطبيعي أن يستخدم هذا التوقيت ضد الرواية وصاحبها. ومحفوظ يروي على أي حال كيف أنه حين سلم مخطوط الرواية لمحمد حسنين هيكل الذي كان لا يزال رئيساً لتحرير "الأهرام" ارتبك الأخير وراح يشكوه لتوفيق الحكيم قائلاً: "شوف نجيب جايبلي إيه؟"، لكنه طبعاً نشرها، وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل.
ولنتذكر هنا ما رواه محفوظ في سياق مشابه عن لقاء سبق ذلك بسنوات مع الرئيس عبد الناصر في مبنى "الأهرام"، بحضور هيكل، إذ يروي في حوار طويل مع جمال الغيطاني أنه حين التقى "الريس" في "الأهرام" كان هذا الأخير يتحدث إلى كل شخص، وهكذا بادره قائلاً "ازيّ ناس الحسين بتوعك. بقالنا زمان ماقريناش لك قصة؟". فقال هيكل: "ستنشر له قصة غداً. ما العمل قصصه تودي إلى السجن". فعلق عبد الناصر: "لا. دي تودي رئيس التحرير بس!".
أربع شخصيات وراوية
أما بالنسبة إلى "الكرنك"، وهي واحدة من أقصر روايات محفوظ، فتتحدث، عبر أربع شخصيات، وبصوت راوٍ نجده في الحوارات، إنما لا مكان حقيقياً له في الأحداث، عن فترة كانت السلطات المصرية تعيش أصعب أوضاعها بعد "هزيمة يونيو (حزيران)"، وتحاول أن تعوض على الهزيمة بقمع كل التحركات الشبابية والطلابية الغاضبة. ومن بين الشخصيات التي يعطيها الكاتب "الراوي" الأفضلية، خالد صفوان ضابط المخابرات الذي يرتاد المقهى متقاعداً، وإسماعيل الشيخ، الطالب المناضل الذي يقيم علاقة مع الراقصة السابقة قرنفلة التي تدير مقهى "الكرنك" اليوم وترقب ما يحدث من حولها بهدوء وحنان، وأخيراً زينب الشيخ الطالبة الناشطة سياسياً والمحبة لإسماعيل إلى درجة أنها حين كان قد اعتقله رجال خالد صفوان وأوسعوه إهانة وضرباً وتعذيباً كي "يعترف"، لم تتردد عن إقامة علاقة مع صفوان وغيره من رجال المخابرات حتى يفرجوا عنه، فيتحولان معاً إلى مخبرين لدى أجهزة المخابرات يمدانها بالمعلومات التي يجمعانها داخل الأوساط الجامعية، ما يسهل على تلك الأجهزة عملها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل الحكاية
والحقيقة أن ما رويناه في السطور السابقة هو كل الحكاية التي تحملها رواية "الكرنك" التي يمكن اعتبارها كما أشرنا ليس فحسب من أقصر روايات صاحب "الثلاثية" و"الحرافيش"، بل في الوقت نفسه من أكثر رواياته مباشرة وخطية، بحيث تبدو في صياغتها وكأنها هي الأخرى تقرير مخابرات صيغ على شكل أربعة فصول كرس الكاتب كل فصل منها لواحدة من الشخصيات الأربع التي تلعب الأدوار الرئيسة فيها، معطياً كل فصل اسم واحدة منها كعنوان له، ما يجعل الرواية تبدو أول الأمر وكأنها تغوص في ذلك الأسلوب الذي كان قد اتبعه محفوظ في روايته المميزة "ميرامار" من حيث جعل الحكاية تصل إلى القارئ من خلال مجموعة صيغ لحكاية واحدة تروى كل صيغة منها بلسان واحدة من الشخصيات الفاعلة.
هنا في "الكرنك" ليس ثمة حتى شيء من هذا. كل ما في الأمر أن الراوي قدم لنا الأحداث في تسلسلها من خلال "أبطالها" الأربعة ليرسم صورة للمناخات السائدة في مصر وتطورها بين حقبتين متتاليتين من التاريخ المصري المعاصر: حقبة "القمع الاستخباراتي" في آخر سنوات حكم الرئيس عبد الناصر، وحقبة "الانفراج الديمقراطي" كما كان يتصوره خلال المرحلة الأولى من حكم الرئيس أنور السادات، بل بشكل أكثر تحديداً: حقبة الاحتجاج والقمع التي تلت الهزيمة؛ وحقبة الانتصار الذي تحقق في أكتوبر (تشرين الأول) 1973 تحت حكم أنور السادات.
أين حكايات الأصدقاء؟
بهذا الأسلوب المباشر كتب نجيب محفوظ روايته في مرحلة لا بد أن نشير إلى أنه أكثر من نشر فيها مثل هذه النصوص التي بدا فيها متهافتاً من الناحية السياسية مضحياً بإبداعه الأدبي الحقيقي لمجرد أن يعبر عن مواقف سياسية ينفس فيها عن غضبه إزاء ما تحولت إليه مصر، متناسياً أنه كان في وسعه أن يقول الشيء نفسه بشكل أكثر إبداعاً وإقناعاً يتناغم مع تاريخه الأدبي لو أنه تمهل قليلاً. فمثلاً، في حوار رائع أجراه معه رجاء النقاش ونشره في كتابه "نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته"، يروي الكاتب كيف ولدت لديه رواية "الكرنك" قائلاً، إن فكرتها "وردت إلى ذهني وأنا أستمع إلى أصدقاء مقهى ريش وهم يقصون عليّ ما لاقوه من صنوف التعذيب أثناء فترة اعتقالهم. فقلت لنفسي لماذا لا أسجل هذه الأحداث في عمل روائي لألفت الأنظار إلى هذه القضية؟ واختمرت الفكرة في رأسي بعد أن قابلت اللواء حمزة بسيوني الذي كان مديراً للسجن الحربي. وجلست أتأمل في ملامحه التي لا تظهر عليها علامات الخشونة والجفاء بما يتفق مع ما كان مشهوراً عنه من غلظة في التعامل، وكان وقتها قد خرج من الخدمة ويحاول الرجوع إليها مرة أخرى".
ونحن نعرف من هنا أن ذلك اللواء القاسي كان هو النموذج الذي بنى عليه محفوظ شخصية خالد صفوان في "الكرنك". بالتالي يحق لنا أن نتساءل أفلم يكن في إمكان كاتب ضخم الموهبة مثل محفوظ أن يخرج من ذلك اللقاء بعمل روائي أقوى كثيراً من "الكرنك" أو يضاهي على الأقل ما كتبه روائيون مثل صنع الله إبراهيم أو شريف حتاتة أو فتحي غانم عن تلك المرحلة نفسها؟