أبدت القوات التابعة لـ "حركة العدل والمساواة" فور وصول زعيمها جبريل إبراهيم للمشاركة في الحكومة الانتقالية عبر مجلس الشركاء، استعدادها للتدخل في أحداث شرق السودان، مما أثار بعض المكونات القبليّة. ثم زار إبراهيم الجنود السودانيين عند بداية الخلافات الحدودية مع إثيوبيا. وأخيراً، أعرب عن استعداد طلائع قواته الموجودة في شمال دارفور وجاهزيتها للتدخل، لحفظ الأمن بعد أحداث مدينة الجنينة غرب السودان.
هذه الوقائع تعكس مؤشرات حول مصدر القوة للحركات المسلحة عموماً، و"العدل والمساواة" خصوصاً، وما قد تفرضه من واقع جديد يمكن أن يهدد النخب السياسية المكونة من الأحزاب. ومع انزواء الدور الحقيقي للأحزاب، فإن عداء النظام السابق لهذه الحركات وفّر لها سجلاً نضالياً استثمرته لنيل الحماية القانونية، واحتكار موارد الأقاليم والهيمنة السياسية في المركز.
ثورية انفصالية
من ضمن أهداف حركة العدل والمساواة التي جاءت في ديباجة نظامها الأساسي عام 2012 "تأسيس نظام حكم فيدرالي يسمح لكل إقليم من أقاليم السودان الستة (العاصمة القومية، الأوسط، كردفان، دارفور، الشمالي، والشرقي) أن يحكم نفسه بنفسه، وفق تخويل فعلي لسلطات دستورية واسعة، وتخصيص عادل للموارد في إطار السودان الواحد، مع اعتماد معيار الكثافة السكانية أساساً مرجحاً لقسمة السلطة والثروة".
وليس غريباً أن يبرز هذا البند بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 على الرغم من أن الحركة تأسست منذ عام 2000 على يد العضو البارز في الحركة الإسلامية خليل إبراهيم، الذي شغل حقائب وزارية عدة في نظام الرئيس السابق عمر البشير، وذلك بعد إصداره "الكتاب الأسود" الذي كان موضوعه الأساس عدم المساواة في البلاد. وبعد اختلافه معه بأن الحركة الإسلامية التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم لم تمكنهم من إزالة الفقر بين الناس، انفصل لقيادة الحركة.
ميليشيات عقائدية
لا يزال الإسلاميون ينظرون إلى حركتهم كفكرة ذات ثقل أيديولوجي، ولم يصلوا بعد إلى حقيقة انهيار مشروعهم الراديكالي، كما لا يودون الاعتراف بفشلهم في إحداث تغيير اجتماعي لانشغالهم بتسييسها. حصلت قوات الحركة الإسلامية وميليشياتها على البريق الأيديولوجي من واقع المنافسة مع الحزب الشيوعي، وتبني عقيدته العسكرية بواسطة الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان، لدرجة دخول الميليشيات الإسلامية مع الحركة المتمردة في حرب طويلة مساندة للجيش السوداني، بعد استيلاء الإسلاميين على السلطة بانقلاب عسكري عام 1989.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد اختلاف الرئيس السابق عمر البشير مع عراب الحركة الإسلامية والعقل المدبر للانقلاب حسن الترابي، ثم حدوث المفاصلة الشهيرة، وجد الترابي نفسه بلا قوات مساندة، لكن تلاميذه أهدوا له حزب وجيش العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم الذي اغتيل في غارة جوية في الـ 25 من ديسمبر (كانون الأول) 2011، ووُجّه الاتهام لنظام البشير، ثم تولى شقيقه جبريل إبراهيم قيادة الحركة، وظل معارضاً لنظام البشير حتى سقوطه.
وبعد أفول نجم الشيوعية ثم استقلال جنوب السودان، تصاعدت الأيديولوجية الإسلامية بشكل نفعي، وعلى الرغم من فقدانها جاذبيتها للشباب كفكرة، فإن نظام البشير ظل يستقطبهم ويمكنهم في وظائف الدولة والقطاع الخاص ذي الصلة بحزب المؤتمر الوطني. في الجانب الآخر، لم تدّعِ "حركة العدل والمساواة" التي سُميت صراحة بـ "الجناح العسكري لحزب المؤتمر الشعبي" القيم العليا للأيديولوجيا الإسلامية، لكنها اتخذت شعارات أخرى هي البحث عن العدالة وحقوق إنسان دارفور.
قفز إلى السلطة
لم تفرّق إجراءات الحكومة الانتقالية في التعجيل بإزالة آثار النظام السابق، واستقطاب معارضيه من الأحزاب السياسية والحركات المسلحة بين هذه الأحزاب والحركات، إذ إن معظمها كان ضمن طاقم الحكومة السابقة حتى سقوطها، لكن الحزب الأبرز الذي لم يُوضع في مسار التصنيف هو حزب المؤتمر الشعبي الذي تمتد الحكومة السابقة بجذورها إليه، وجناحه العدل والمساواة. كما أن الحكومة الانتقالية استعانت بالحركات المسلحة، وأتاحت لها الفرصة للمشاركة الكاملة في لعبة السلطة، تمهيداً لمشاركتها في التحول الديمقراطي.
وهذه الحركات لم تكن ضد نظام الإنقاذ وحده، إنما ترعرعت بذرتها في ظل الديمقراطية الثالثة بزعامة الصادق المهدي، وهي الفرصة التي توفرها الحكومة الانتقالية لحزب المؤتمر الشعبي، الذي على الرغم من انقلابه على نظام ديمقراطي ومشاركته في الحكومة السابقة، فإن بعض قيادييه قالوا صراحة إبان خلافهم مع البشير إن "الإسلاميين لم يحكموا بعد"، لكنهم واصلوا ممارستهم العملية البراغماتية، بينما احتفظوا بشعارات الحركة الإسلامية.
هذا الواقع يرجح فرضية توق الإسلاميين للعودة إلى السلطة مُجدداً، سواء بالاتفاق مع أعضاء النظام السابق من حزب المؤتمر الوطني والتغاضي عن جراحات الماضي والخيانة التي تسبب بها رموزه لشيخهم حسن الترابي، أو من طريق آخر، إذ إن الضعف الحالي للحكومة الانتقالية يوفر فرصة ذهبية للإسلاميين، جناح الترابي، للقفز إلى السلطة بأية وسيلة، ويبدو أن الأمر حتى الآن يسير لمصلحة حركة العدل والمساواة.
أزمة قيادة
تعاني الأحزاب السياسية، بما فيها المؤتمر الشعبي، أزمة قيادات بعد رحيل زعمائها محمد إبراهيم نقد (الحزب الشيوعي)، وحسن الترابي (المؤتمر الشعبي)، والصادق المهدي (حزب الأمة)، لذا رأى حزب المؤتمر الشعبي تقديم قائد حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، ليشغل حيزاً سياسياً، خصوصاً أنه تجمعهما سمات أساسية مع تضاؤل دور المنافسين الأيديولوجيين بدرجات متفاوتة من حزبي "البعث" و"الشيوعي".
وجاء هذا التوجه لاستثمار موقف الحركة المناوئ للنظام السابق، وقبولها في الحكومة الحالية والتعامل معها ضمن شركاء الحكومة الانتقالية، وترشيح قائدها لمنصب تنفيذي في الدولة. ويراهن جبريل إبراهيم ومعه حزب المؤتمر الشعبي على الانتخابات، بعد أن فتح عضوية حركته لكل السودانيين، إذ كانت حكراً على أبناء دارفور، خصوصاً قبيلة "الزغاوة" التي ينتمي إليها.
وهذا الرهان ناتج من إيمان جماعة الإخوان المسلمين في السودان بأنها ستوصلهم إلى السلطة، أسوة بما أسفرت عنه تجارب ما عُرف بالربيع العربي بإيصالهم للسلطة في مصر وتونس. وطالما هناك فرصة واضحة لهم لتسلم السلطة في السودان عبر هذا الطريق، فإن الخطوة التي اعتبرها حزب المؤتمر الشعبي على قدر من الأهمية، هي فتح أبواب الحوار بين الحكومة الانتقالية و"العدل والمساواة" حتى وصولها إلى هدفها.
ولأنه ليس لدى الحكومة الانتقالية نية لعزل الإسلاميين من غير حزب المؤتمر الوطني الحاكم السابق، فإن فكرة ضمهم إلى الحكومة تجيء من خلفية التفريق بين الإسلاميين فرع المؤتمر الوطني، والإسلاميين فرع المؤتمر الشعبي، بل إن صعوبة التمييز بينهما قد تسمح للفكر الإخواني من الظهور بقوة أكبر، خصوصاً مع عدم وجود معادل أيديولوجي يقوم بهذا الدور.
دور جديد
وإذا كان المؤتمر الشعبي يظن أن تفاهم الحكومة الانتقالية سيكون ميسوراً مع حركة مسلحة هي خليط من الأيديولوجيا والثورية، وتتوفّر لديها زعامة روحية افتقدها الحزب، فإن إمكان تحدثها باسم الإسلاميين واتخاذ قرارات المشاركة السياسية باسمهم يظل أكثر تعقيداً وتشابكاً، وقد يفتح هذا الواقع الجديد الباب على مواقف متباينة ومتعارضة بين التكوينين المنتميين إلى الجماعة الواحدة.
ومن ضمن هذه المواقف اختلاف الخطاب السياسي، إذ تأرجح المؤتمر الشعبي بين معارضة النظام السابق بعد خيانة زعيمه ومداهنته، عقب حصول أعضائه على مناصب، بينما ظلت حركة العدل والمساواة في خطها الإسلامي مع التمسّك بالإثنية في انتمائها إلى قبيلة الزغاوة، الممتدة بين دارفور غرب السودان ودولة تشاد. وعندما قرّر زعيمها المشاركة في الحكومة أطلق الصفة القومية على الحركة، وفتح عضويتها لأبناء السودان من مختلف القوميات.
ولدى حركة العدل والمساواة من تعقيدها التنظيمي وارتفاع سقف أهدافها المتعددة ما بين انتمائها الأيديولوجي وشعارات رفع التهميش عن كاهل أهالي دارفور، ما يؤهلها للعب دور جديد في السودان ليس لمؤهلاتها، وإنما لتعقيد بنائها المؤسساتي في مقابل بساطة الحركات المسلحة الأخرى، وهو ما قد لا يتوفر لبقية الحركات التي أطلقت عليها الحكومة الانتقالية اسم (حركات الكفاح المسلح) بدلاً من (الحركات المتمردة المسلحة) وهو الاسم الذي التصق بها طوال سنوات الإنقاذ.
وينتقل عمل الحركات المسلحة، كحال الأحزاب السياسية، من المعارضة إلى الحكم، لكن الفارق في حال الحركات أنها انتقلت بزعاماتها من ميادين النزاعات في دارفور ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق إلى العاصمة الخرطوم، وأبقت على جنودها هناك إلى حين تنفيذ بند الاتفاق بدمجهم في القوات المسلحة. ويبدو أن هذا الطريق سيكون عسيراً نسبة إلى المطالب التي أرفقتها الحركات لبنود الاتفاق، وللتحول الوظيفي لقادتها، وانتقالهم من القتال إلى الخدمة المدنية.
وإذا كان العنف يتوفر لهذه الحركات في ميادين القتال، فإنه قد يتوفر على مستويات أخرى عدة وفق مظاهر مختلفة، ربطها ميشيل فوكو بالسلطة أياً كان نوعها، وبالسياسة والظروف التاريخية.