بعد أن بدأ دونالد ترمب، الرئيس الاميركي السابق، بالتشكيك بنتائج الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني)، لجأ موقع "تويتر" للتواصل الاجتماعي، إلى ستر التغريدة المشككة بمنشور ينبه إلى ما تحمله من معلومات مضللة. وكأن "تويتر" أستاذ مدرسة استل قلماً أحمر اللون لينبّه القراء إلى أخطاء الطالب المشاكس. وإثر حظر مواقع التواصل الاجتماعي حسابات ترمب بعد اقتحام الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) الجاري، شجبت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، القرار، شأن الرئيس المكسيكي، أندريس أوبرادور. والخطوة هذه سلطت الضوء على نفوذ عمالقة الإنترنت المنفلت من عقال المؤسسات القضائية وغيرها من الهيئات. واللافت أن "فيسبوك" أنشأ "محكمة عليا" خاصة به تنظر في مساعي الحجب أو الحظر.
وكان ترمب رائداً في استخدام منصات التواصل الاجتماعي حين إعلان قراراته الرئاسية وآرائه السياسية والشخصية على صفحته الرسمية. وخرج على المألوف في الخطاب السياسي في الغرب وطعن في صدقية مؤسسات بلاده وأركانها، ومنها الكلية الانتخابية التي كانت الفيصل في فوزه بولايته الرئاسية في 2017 على الرغم من خسارته التصويت الشعبي بأكثر من 2.8 مليون صوت أمام منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. وبدا في حملته الانتخابية الأولى حين أكد مثلاً احتفال حشود من العرب في ولاية نيوجيرسي بهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ثم في ولايته الرئاسية أنه التحق بركب "عالم ما بعد الحقيقة" الذي حذر من مخاطره أمثال مايكل هايدن، المدير الأسبق لوكالة الأمن القومي الأميركية. وترجح في العالم هذا كفة الانفعالات والمعتقدات على كفة الوقائع الحدثية والخبرات. وكان معجم أكسفورد انتخب عبارة "ما بعد الواقع" كلمةَ العام في 2016. وأوجز هايدن في مقالة نشرتها "نيويورك تايمز" في 2018 نهج ترمب في اتخاذ القرارات قائلاً: "النقاش يبدأ مع تغريدة رئاسية أو تصريح رئاسي. ثم يليها سعي كبير إلى إبلاغ الرئيس بتعقيدات المسألة وإقناعه بها، وحثه على مراجعة تاريخ المسألة، وتسليط الضوء على ما يترتب عليها من نتائج والتفكير في الخطوات اللاحقة. وأحد المقربين من ترمب وصفه بـرجل الدقيقتين وطول صبره لا يزيد على (وقت قراءة) نصف صفحة. وكان يطالب بموجز استخباراتي لا يزيد على 5 صفحات عوض 60 صفحة درجت أجهزة الاستخبارات الأميركية على تزويد الرؤساء بها". وعلى الرغم من ارتجاله في عالم السياسة واحتكامه إلى حدسه ومعتقداته الشخصية، كان ترمب مصيباً في عدد من القرارات، على نحو ما يقر خصومه في عالم السياسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحال شبكة الإنترنت اليوم من حال شبكة الراديو في ثلاثينيات القرن العشرين. فهي صنو "الغرب المتوحش" على ما يسمي الأميركيون مرحلة كانت فيها شريعة الغاب والانفلات من القوانين هما الراجحتان. وثمة سابقة للجدال الدائر اليوم في العالم الرقمي عن حرية التعبير وحدودها شهدتها موجات أثير الراديو في مطلع القرن الماضي مع ذيوع صيت الأب شارلز إدوارد كوفلين. وبعد تقديمه عظة بعنوان "الاضطهاد: اليهود والمسيحيون" توسل فيها بلغة مستوحاة من "در ستورمر" Der Sturmer، مجلة الدعاية النازية، توقفت الإذاعة عن بث خطابه، وقاطعه مذيع قائلاً: "مع الأسف، تفوه الأب كوفلين بتصريحات لا تمت بصلة إلى الواقع". ثم أبلغ مدير راديو "دبليو أم سي آي" المستمعين أن محطته "لن تسمح بعد اليوم ببث تحريضات كوفلين وكلماته التي ترمي إلى "إثارة الكراهية الدينية والعرقية وتزرع الشقاق في بلادنا".
ورأى موقع "سلايت.كوم" أن تحرك المحطة لوقف بث برنامج كوفلين لم يخلف الراحة في النفوس فحسب. بل ترافق مع ضيق من قدرة القائمين على شركات التواصل على كم الأصوات و"إغلاق المذياع" من دون الاحتكام إلى هيئة ناظمة أو قوانين. فصلاحياتهم مطلقة. ومثل هذا الضيق يسود اليوم في الولايات المتحدة، فمن أين لشركة، ولو كانت عملاقة، أن تملك صلاحية تقييد حرية التعبير. والحق أن عمالقة الإنترنت اليوم شأن محطات الراديو في الأمس لم تحرك ساكناً أمام خطاب الكراهية والمعلومات الكاذبة إلا بعد وقوع الواقعة كما يقال. ففي الثلاثينيات، لم تسعَ محطات الراديو إلى وقف بث دعوات متطرفة وعنصرية نازية إلا بعد اجتياح ألمانيا الهتلرية النمسا وشيكوسلوفاكيا. واليوم، لم تحظر مواقع التواصل الاجتماعي صفحة دونالد ترمب إلا بعد اقتحام الكابيتول.
وإلى الأمس القريب، كانت غاية هذه الشركات مراكمة الأرباح وجذب المعلنين وزيادة قيمة أسهمها. ولكنها اضطرت قبل أشهر إلى المساهمة في مساعي وقف جائحة المعلومات الكاذبة عن فيروس كورونا، بعد وقوع ضحايا جراء تصديق ما يرونه على مواقع التواصل الاجتماعي ودعوة حكومات هذه المنابر إلى ضبط سيل هذه الأخبار المضللة. ولم تحرك هذه المواقع ساكناً لحظر مواد تحرض على العنف وتدعو إليه وتنشر التخطيط له والعزم عليه وتبث تفاصيل حصوله بثاً مباشراً على "فيسبوك" مثلما حصل في مجزرة "كرايست شيرش" النيوزيلندية التي راح ضحيتها 51 شخصاً. وإثرها اضطر "فيسبوك" إلى تقييد خدمة البث المباشر، وسعى إلى حذف أكثر من مليون ونصف تسجيل فيديو للمجزرة عن منصته.
والحاجة تمس إلى تنظيم الشبكة العنكبوتية وضبط سلطات مواقع التواصل الاجتماعي في إطار ديمقراطي يحول دون الانزلاق إلى سوء استخدام سلطاتها والتعسف أو الانزلاق إلى القمع على نحو ما فعل موقع "تيك توك" الصيني حين حظر نشر ما يظهر علاقات مثلية أو له صلة بمجتمع الميم. وأدرج "تيك توك" الخطوة في خانة "سياسة مكافحة التنمر" قبل أن يتراجع عن الحظر الكامل.