لم تعد الكتابة السردية مجرد ترتيب لأحداث مضت. ولم تعد ثمة بدايات ونهايات لعالم يصوغه الكاتب، ويلقي به في وجه المتلقي. أصبح الكاتب نفسه ركناً رئيساً في سرده، لا من خلال معرفتنا الشخصية به ومقارنة تلك المعرفة بما نقرأ، وإنما من خلال وجود الكاتب نفسه كعمود من أعمدة الخيمة السردية.
وهذا لا يعني غياب الحكايات، فهي تظل على الدوام أس الكتابة السردية، لكن الحكاية لم تعد تلك التي ألفناها قبل عقود. لقد ترتب على حضور الكاتب نفسه حضور آخر، وهو خياله الجامح المقرون بوجوده.
هذا ما نلمسه بوضوح في المجموعة القصصية "غيمة يتدلى منها حبل سميك" (دار الأهلية – عمّان) للكاتبة الأردنية أماني سليمان داوود. ولأن الكاتب حاضر بوضوح حيناً، ومتوارٍ خلف شخصيات أخرى حيناً آخر، فإن الكاتبة هنا تفكر بصوت مرتفع، وتنقل إلينا نتاج تحليق خيالاتها الغرائبية. وهنا علينا أن نشير إلى مسألتين، الأولى هي أن هذه الخيالات ليست منبتة، وهو ما يعني أنها ابنة الواقع الغرائبي نفسه. إنها حياتنا بكل خبراتنا فيها، وبكل خوفنا وهوسنا وقلقنا وتوترنا، مما عشنا ونعيش من جنون بشري لم نكن لنفكر فيه قبل عقود، لأننا لم نكن نظن أن الإنسان قابل لأن يتحول إلى ما نراه ونلمسه من وحشية وبغض.
والمسألة الثانية اللافتة هنا، هي عدم الفصل بين ما هو موضوعي فنياً وما هو غرائبي. فالقصص كلها تبدأ بداية "يومية"، إن جاز التعبير. فثمة شخص يصعد إلى الحافلة ويدفع النقود ذاهباً إلى عمله، قبل أن يهمس بجملة غريبة للراكب الذي يجلس إلى جواره. وثمة في قصة أخرى أطفال ينهون ألعابهم ويعودون إلى منازلهم كما يحدث في القرى والبلدات في العادة، ولكن الطفل الأخير يصبح وحيداً فيختلف الأمر.
قلق معيش
يمكن القول إن القصة الجديدة أصبحت معنية أو مسكونة بقلق وجودي مختلف عن السابق. إنه قلق راهن ومعيش وليس مؤجلاً. قلق يتعلق باليومي، لا بالهيولي، والوجود والعدم. وفي ظني أن الإنسان المعاصر قد وجد نفسه يعيش في دوامة من الخوف على نفسه من اللحظة القادمة، حتى لو لم يقم بأي عمل يستحق العقاب. وهنا أتذكر قصة لإدغار آلان بو يقوم بطلها بقتل رجل فحسب لأن عينه لا تروق له.
فالشاب الذي يصعد إلى حافلة الركاب لا يلبث أن يخبر المرأة إلى جواره أنهم سيقطعون رأسه بعد ثلاثة أيام، من هم هؤلاء؟ لا نعرف. لماذا سيقطعون رأسه؟ لا نعرف. المرأة تخبر الشاب أنها في طريقها إلى المحكمة لأجل قضية تخص ابنها. الشاب يخبر السائق أنهم سيقطعون رأسه. الغريب هو أننا لا نعثر على رد فعل واحد يوازي الخبر الذي يبثه الشاب. وحتى حين يتدلى رأس الشاب بحبل سميك مربوط بغيمة، وحين يتحرك الشاب بين الجموع بلا رأس، لا نشهد أي رد فعل من الآخرين، بمن فيهم أم الشاب نفسه. لقد تفشى اللا معقول بين الناس، وصار أمراً عادياً. وهو ما يعني أن أفكار الشاب/ الكاتبة، متداولة في رؤوس الآخرين كأمر مقضي. لقد فوجئ والدا غريغور سامسا حين دخلا إلى غرفته، وشاهدا تلك الحشرة اللزجة، وسمعا منها صوت غريغور. أما هنا فلا مفاجأة ولا استغراب.
لقد تحول الغرائبي في مجتمعاتنا إلى أمر مقبول، لأن الناس اكتسبت تلك الخبرات نفسها، وعاشت الكوابيس ذاتها، وبالتالي فهي مهيأة تماماً لمثل هذه الغرائبية، التي تعينت في كل ما يدور حولها، وما يجري لها.
هذا الأمر ينطبق على عديد من القصص، كقصة "سلالم البوح" مثلاً، حيث يتم تبادل أدوار بين الطبيب النفسي المعالج والمريض. وهو أمر ما كان ليحدث لو لم يكن العطب شاملاً، وهو ما يؤكده الكاتب ككاتب ومريض هنا، ويؤكده الطبيب نفسه.
تبين هذه القصص مدى الارتباك الذي أصاب الحياة البشرية/ حياتنا، جراء الأحداث والتحولات في المفاهيم والأفكار والقيم. كما تبين مدى سطوة الخوف الذي أصبح يرزح فوق صدورنا لأسباب عدة. ولذلك لم يكن غريباً أن تلجأ الكاتبة إلى الميثولوجيا الشعبية والدينية، لما ترتبط به هذه الميثولوحيا مع الغرائبية بصلة قربى. فكلاهما غيبي، وكلاهما يستند إلى المخيال البشري بعيداً عن العلم، كالرأس الذي يتدلى من حبل مربوط بغيمة. وكلاهما مرتبط بخوف غامض يتسبب في قتل البهجة "ثم لعنت الليل الذي يأتي كل يوم وأنا في أوج بهجتي"، ص 34. والليل هنا مقرون بالخوف، أو معادله الموضوعي على وجه التحديد.
الهاجس الغرائبي
وطالما كانت القصص مهجوسة بالغرائبي، فإن لهذه الغرائبية ما يبررها، وما يجعلها قادرة على أن تكون ثيمة من ثيمات حياتنا اليومية، من دون أن تصرح الكاتبة مباشرة بذلك. فالحضور الطاغي لهذه الغرائبية، ما هو إلا حضور طاغٍ لنفوس متعبة وقلقة ومتوترة وخائفة. إنها ابنة واقع مربك وغير منظم، وقد فشل الإنسان في ترتيب فوضاه كما ينبغي، فحلت الفنتازيا والغرائبية واللا معقول. وحل كل ما هو غيبي كحكاية الحلول في الآخر وحكاية طرد الخوف بالطرق الشعبية غير العلمية بالطبع. واللجوء إلى استحضار معجزات دينية كالسنوات السبع العجاف، وشق الصخرة بعصا ليتدفق نبع ماء عذب. إنه نكوص الإنسان تحت وطأة الانسحاق الذي يعيشه، وفي ظل غياب حلول علمية ومنطقية تنقذه من هذا الرعب الذي يحل بيننا من دون ذنب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالعودة إلى قصة "غيمة يتدلى منها حبل سميك" نعثر على المرتكزات الأساسية للسرد في المجوعة كلها، حتى لو اختلفت الشخوص والحكايات. فالقصص الأخرى تنويعات على الأصل الكامن في "الغيمة التي يتدلى منها حبل سميك". فكل من التقاهم الشاب من قبل وزجروه أو تجاهلوه، حين أخبرهم أن هنالك من سيقطع رأسه بعد ثلاثة أيام، تغير سلوكهم حين تدلى رأسه من حبل سميك، وتقاطروا إلى منزله تعاطفاً. لقد أصبحوا واثقين الآن مما قاله لهم، بعد أن أصبح بلا رأس، لكن الغريب هو أنهم عاملوه معاملة المسافر أو الذاهب إلى السجن، وربما كان ذنبه أنه كان يضحك! لقد أخبرته أمه أنها حذرته من ذلك. ولأن الآخرين كلهم لا يعرفون الضحك، أو لا يجرؤون عليه، فلربما مثل لهم رمزية يحتاجون إليها، وهو ما جعلهم يهدونه ملابس وأطعمة وما يمكن أن يفيده في رحلته المقبلة. وكما لم يُفاجأوا من قبل، نراهم لم يُفاجأوا وهو بلا رأس، وكأنهم يدركون أن هذا أمر طبيعي في حياتهم. إنها الحياة حين تكون عشوائية أو غريبة أو مرتبكة أو غامضة.
لا يفوتنا في هذه المعالجة أن ننوه بأن هذا الغموض وهذا الارتباك، لا يعنيان التفريط بالحياة، مقدار ما يعنيان التشبث بها، وإن اتخذ ذلك أشكالاً مختلفة. فعدم قدرة المرء على مواجهة الخوف والقلق والإحباط، يقوده إلى وسائل أخرى في مواجهة الموت والاضطراب، وهو ما نلمسه بجمالية كبيرة في قصة "مقص الشجر"، حيث يدخل الشاب في غيبوبة بسبب موت سريري. هنا تبدأ ردود فعل الأم الطبيعية، من حزن وخوف يرافقهما ضعف البنية الجسدية وانعدام النوم، لكنها بعد ذلك تلجأ إلى طريقة أخرى، فتعيد نمط الحياة السابق قبل غيبوبة الابن، إلى سابق عهده. تعد الطعام لثلاثة "الأم، والابن، والابنة". تدخل ليلاً غرفة الابن، وتشعل السجائر وتُطفئها في المنفضة كما كان يفعل الابن. تجترح الفوضى التي كان يقوم بها الابن من قبل، وفي النهار تعود إلى الغرفة وتقوم بتنظيفها وترتيبها. إنها تتحايل على الموت المتربص بابنها، بإعادة الحياة إلى ما كانت عليه من قبل. خداع الموت أو تضليله طالما لم نكن قادرين على الانتصار عليه.