في معترك الثورة الفرنسية التي وقعت في القرن الثامن عشر، كان أنصار الثورة من أعضاء البرلمان الفرنسي يفضلون الجلوس عن يسار الرئيس بينما المناوئون لها عن يمينه. هذا الترتيب البسيط في مواقع الجلوس خلّد هذين المصطلحين في تاريخ الفلسفة السياسية في العالم. فتطورا مع الزمن من مجرد انقسام سياسي إلى مظلتين نظريتين يجتمع تحت كل منهما هيكل من التنظير الثقافي والسياسي والاجتماعي. وتشكلت في فضاء كل منهما نظريات سياسية واقتصادية وثقافية أسهمت في تشكيل العالم الذي نعيشه الآن.
ورغم أن المتتبع لتاريخ الشعوب يستطيع أن يتلمس مكونات يمنية ويسارية في جميع الحضارات السابقة تقريباً حتى البدائية منها. ولكن تبلور المصطلحين (يميني – ويساري) هو ثمرة الثورة الفرنسية بالتأكيد. وانتشار هذين المصطلحين بعد ذلك على شكل صراع بين المحافظة والانفتاح جاء هذه المرة مكرساً بحمولة التنوير الفرنسي الذي أرهص لهذه الثورة. وهي ثورة يعدها كثير من المؤرخين السياسيين ملهمة لثورات عديدة بعدها في العالم، على الرغم من كونها بعيدة كل البعد عن النموذج المثالي الذي رفعت شعاراته.
على مسرحي اليمين واليسار نشاهد كل الأدوار الممكنة التي لعبتها الحركات السياسية والنظريات الاقتصادية والتوجهات الثقافية بغض النظر عن خيرها وشرها ونفعها وضررها. ففي مسرح اليمين نرى المحافظة والنازية والفاشية والرأسمالية وغيرها وفي مسرح اليسار نرى الليبرالية والشيوعية والماركسية والنسوية وغيرها. ذلك لأن اليمين واليسار ليسا موقفين يمكن تصنيفهما ببساطة وفق معيار الخير والشر، بل مجرد مساحة فكرية واسعة يمكن لكل من الخير والشر أن يتشكلا في كل منهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بزغ نجم هتلر في سماء اليمين، وكذلك ستالين في سماء اليسار. وكلاهما أذاق البشرية فظائع يمينية ويسارية لا حصر لها. وفي اليمين أيضاً تألق آدم سميث في كتابة ثروة الأمم، وكذلك تألق كارل ماركس في كتابه رأس المال. وكلاهما حاضران بقوة في صناعة الاقتصاد الحديث. فاليمين واليسار ليسا سوى طيف فلسفي ذي حدين يمكن أن تتأرجح بينهما الفكرة حسب الظروف التي خُلقت فيها. وهذا يحدث مراراً في تاريخنا المعاصر مع تبدل الحكومات وتعاقب الأحزاب في حكم الدولة الواحدة.
في أدبيات اليمين، يظهر اليساري كائناً عاطفياً ساذجاً ينجرف وراء الشعارات. سطحيّ في تناوله للاقتصاد. ويندفع تجاه مجتمع فاضل لا وجود له قائم على المساواة المستحيلة غير المستدامة. وفي أدبيات اليسار، يظهر اليميني كجلمود من التقاليد، رافضاً للانفتاح. متمسكاً بالتقاليد. محافظاً على العادات. ويؤمن أن المساواة تكون في الفرص فقط. وهذه الصفات انثروبولجية وعميقة ويمكن أن تصف بها أفراداً ومجتمعات عاشوا قبل الثورة الفرنسية بآلاف السنين. يوحي ذلك أن النقطة التي يقف فيها الإنسان على خط اليمين واليسار قد تكون غريزية.
هذا التصور فتح المجال أمام العشرات من الدراسات الحديثة التي تحاول بشكل طموح إيجاد علاقة بين جينات الإنسان وميوله اليمينة/اليسارية. ورغم جدلية هذه الدراسات وعدم تمكنها من إيجاد علاقة حاسمة، فإن الأدلة التي تشير بهذا الاتجاه في ازدياد. وإذا صدقت هذه الدراسات، فإن هذا يعني أن السبب الذي حدا غيفارا على أن يعيش حياته اليسارية كان مكتوباً في جيناته قبل ولادته بقرون. وكذلك الأمر مع الشخصيات التاريخية اليمينية.
الدراسات الحديثة أيضاً تحاول اكتشاف العوامل التي تؤثر على يمينية الشخص أو يساريته. بعضها يشير إلى أن البشر يميلون إلى اليمين مع التقدم في العمر، عندما ينخفض تأثير العاطفة مقارنة بالمنطق. يذكرنا ذلك بالمقولة الشائعة حول الشيوعية، أحد نماذج اليسار، التي تقول "إذا لم تكن شيوعياً في العشرين فأنت بلا قلب. وإذا كنت شيوعياً في الثلاثين فأنت بلا عقل". بعضها الآخر يشير إلى أن هناك علاقة بين مستوى الدخل والتوجه السياسي، بمعنى أنه كلما زاد دخلك أصبحت يمينياً أكثر، تحاول "المحافظة" على مكتسباتك، وتتوجس من الجديد الذي قد يغير قواعد اللعبة.
هذه الاحتمالات، بغض النظر عن مصيرها بين الاثبات والتفنيد، تشير بوضوح إلى أن نظرتنا لليسار واليمين يجب أن تكون أكثر انفتاحاً بقدر ما أن العوامل المؤثرة في هذه الميول قد تكون خارج النظرية السياسية بأكملها. وهو يصحح قصر النظر الذي يسقط الفكر اليميني أو اليساري على نماذج تاريخية قريبة العهد فقط، ويغذي النظرية من تطبيقها وليس العكس.