رواية هزّت العالم. ذاع صيتها لتصبح الأوسع انتشاراً والأكثر طباعة وتوزيعاً في الدولة السوفياتية المترامية الأطراف المتعددة القوميات. تسابق أساطين الفن في الاتحاد السوفياتي وخارجه لتجسيدها مسرحياً وسينمائياً. انتفض زعيم الدولة ستالين ليشملها بالنقد تارة، والتقريظ تارة أخرى ما اهتزّت معه الأوساط الحزبية والفنية. سارعوا إلى المراجعة والتعديل، وحار المؤلف ولأعوام طوال أمام ما أراد ستالين من تعديلات، لينتهي به الأمر بعد وفاة ستالين إلى الانتحار وسط ظروف يظل الغموض يكتنف الكثير من جوانبها، ويزيد من حدته ما احتدم من جدل حول مكنون الرسالة التي تركها الكاتب قبيل انتحاره.
إنها رواية "الحرس الفتي" التي ظهرت في جزءين في آخر سنوات الحرب العالمية الثانية. تسابقت دور النشر المحلية والعالمية للفوز بحقوق طباعتها وتوزيعها بعدما ذاع صيتها كأحد أفضل نماذج أدب المقاومة بين الشباب لتغدو خلال مدة وجيزة الأوسع انتشاراً والأكثر ترجمة إلى العديد من لغات العالم ومنها العربية، وهي التي كان لنا شرف ترجمتها عن دار نشر "التقدم" في موسكو عام 1981.
مؤلف هذه الرواية هو ألكسندر فادييف (1901-1956) أحد أبرز مشاهير الأدب السوفياتي، صاحب العديد من روايات الحرب والمقاومة التي سجلها من واقع عمله كمراسل لصحيفة "البرافدا" لسان حال الحزب الشيوعي السوفياتي إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن رئاسته اتحاد الأدباء السوفيات (1946-1954) وعضوية المجالس القيادية للكثير من المنظمات الاجتماعية العالمية. ويحسب تاريخ الأدب السوفياتي لفادييف مكانته بين فناني وأدباء المقاومة في تاريخ الأدب العالمي، بما أنجزه من سلسلة أعمال تظل تأريخاً متميزاً لموضوع الثورة والكفاح المسلح والحرب الأهلية في تاريخ الدولة السوفياتية. وفي هذه السلسلة تشخص "الحرس الفتي"، لتزين عقد أعماله الفريدة التي نشير منها إلى رواياته "الهزيمة" و"لينينغراد إبان الحصار"، وملحمته التاريخية "الأخير من أوديغيي" التي صدرت في أربعة أجزاء وكان ينوي إصدارها في ستة أجزاء أصدر منها أربعة حتى عام 1956 ولم يكملها بسبب انتحاره!
نقاش محتدم
البداية كانت خلال زيارة قام بها ألكسندر فادييف الى مقر اللجنة المركزية لمنظمة الكومسومول (الشبيبة السوفياتية) في صيف عام 1943. هناك احتدم نقاش حول وثائق وصلت على التو من مدينة كراسنودون (إحدى المدن الصغيرة لعمال المناجم)، وكانت تتناول قصة تنظيم سري أبلى حسناً في مقاومة العدو النازي. عرضوا عليه الاطلاع عليها وترشيح من يمكن أن يضطلع بالكتابة عنها، واقتراح حول احتمالات أن يفكر في القيام بذلك، وهو الذي نشأ وترعرع في كنف أسرة من الثوريين المحترفين، ما ساهم في انضمامه إلى حزب البلاشفة ولم يكمل السابعة عشرة من العمر. تعلل فادييف بالانشغال بالعمل في الجبهة، وبأنه ناله من التعب مداه، لكنه وعد بالتفكير في من يصلح للقيام بهذه المهمة. وحين مضى ما يقرب من الأسبوعين من دون رد من جانب فادييف، اتصلوا به تليفونياً للاستفسار والسؤال، لتفاجئهم زوجته بأنه سافر إلى كراسنودون مصطحباً معه كل ما كان في حوزته من وثائق، قال عنها في ما بعد "إنها تُحَرٍك الحجر".
إلى هناك شد ألكسندر فادييف الرحال. ذهب وهو الذي كان تخصص في تسجيل مفردات الحرب الأهلية التي ظهرت حيًة زاعقة، في روايتيه الشهيرتين تحت اسمي "الهزيمة" و"الأخير من أوديغيي"، إلى كراسنودون قبل أن تجف دماء شهدائها للقاء شهود العيان وأقارب أبطال "الحرس الفتي"، هذه المنظمة الشبابية الرائعة. عايش أولئك الفتية وبطولاتهم لما يزيد عن العام وتسعة أشهر، ليخرج قائلاً هذه قصتي أقدمها ومن دون مبالغة تجسيداً لحياة أبطال كراسنودون التي رسمتها بحب جارف لمن منحتهم "دم قلبي".
"الحرس الفتي"، رواية البسالة والبطولة، سرعان ما ذاع صيتها بعدما جرى نشرها على صفحات الجرائد والمجلات، ومنها تلقفتها المطابع لتنسخ الطبعة تلو الأخرى، والتي بلغت 226 حملتها إلى صدارة المطبوعات العالمية بعدد نسخ تجاوز 143 مليوناً. وكانت الرواية موضوعا للكثير من الأفلام السينمائية والمسرحيات الدرامية بل و"أوبرا" تحكي قصة بطولات فريق من شباب الكومسومول (الشبيبة السوفياتية) في مواجهة الغزاة الألمان، أولئك الشباب الذين حرص فادييف على أن يفتتح الجزء الأول من ملحمته التاريخية عنهم بنشيدهم الذي نقلناه بقليل من التصرف، في ترجمتنا، إلى العربية لهذا العمل الأدبي الشديد الأهمية:
"إلى الأمام يا رفاق هبوا كي نلاقي الفجر
وبالحراب والرصاص شقوا دربكم في الصخر
وليعلُ في ذرى الأكوان سلطان العمل
وليصبح الجميع أسرة وحّدها العمل
الحرس الفتي للعمال والزراع هبً للقتال".
أحداث هذه الملحمة الوطنية، مستقاة من واقع حياة أبناء مدينة كراسنودون الأوكرانية التي سقطت ضحية القوات الفاشية في منتصف سنوات الحرب العالمية الثانية. وتحت وطأة ذلك الاحتلال المقيت، ورداً على تنفيذ هذه القوات الكثير من أحكام الإعدام بحق مواطنيها، ظهرت قوات المقاومة الشعبية على غرار تلك التي انتشرت في الكثير من المدن السوفياتية. ولم يكن شباب المدينة بمنأى عن حركات المقاومة والدفاع عن الأرض والعرض في تلك البقاع، ممن قاموا بتشكيل منظمتهم التي ذاع صيتها نموذجاً لانخراط الشباب، ومنهم من كان دون الرابعة عشرة من العمر، في حركة المقاومة للمحتل المقيت. وتحكي هذه الرواية قصة تشكيل ما يزيد على المئة من فتيان وفتيات تلك المدينة لمنظمتهم الشبابية "الحرس الفتي" التي سرعان ما ذاع صيتها وترامت أصداء بطولاتها الخالدة إلى ما وراء حدود المدينة والمنطقة.
شباب المنظمة
وننقل عن قسطنطين سيمونوف الأديب السوفياتي المعروف قوله إن "فادييف أراد بكتابة هذه الرواية تبيان على أنصع وجه ممكن، ما كان عليه أولئك الشباب من منظمة "الحرس الفتي" من تصميم وإصرار على تحقيق النصر، بما اتسموا به من خصال وصفات ساهمت في تحقيقهم ما كانوا يصبون إليه". ولعلنا هنا نضيف إلى ما قاله سيمونوف، ما أصاب الكاتب من نجاح في تصوير العالم الداخلي المعقد لشباب تلك الحقبة التاريخية، ودقائق تحركاتهم ونشاطهم في الخطوط الخلفية للعدو، وما قاموا به من بطولات مجيدة، ساهمت في بث الرعب والخوف في نفوس الكثيرين من أعدائهم من خلال ما كانوا يوزعونه من منشورات، وما ينفذونه من عمليات إعدام للخونة، وتحرير الأسرى ورفع الأعلام الوطنية رغماً عن إرادة العدو واحتفالاً بأعياد الثورة والمناسبات القومية، وإضرام النيران في مقار ومراكز قيادة قوات الاحتلال في المنطقة. ولا يفوتنا هنا ما سجله فادييف بريشة فنان شديد الإحساس بدقائق اللحظة، من مفردات "احتمالات السقوط في شرك الأجهزة الاستخباراتية والأمنية"، وإيضاح وشرح استراتيجية العدو، وأساليبه في الإيقاع بضحاياه ممن اختارهم لتجنيدهم للعمل في خدمة قوات الاحتلال. وتلك دروس أخالها من أهم الدروس المستفادة لصقل خصال الشباب وتدريبهم على مواجهة تلك الأساليب في مثل الظروف التي من الممكن أن تصادفهم سواء في فترات السلم أو الحرب.صورة أخرى للروائي
ومن الجميل في هذا الصدد أيضاً ما كتبه الناقد والأديب السوفياتي فيتالي أوزيروف في تقديمه ترجمة "الحرس الفتي" إلى اللغة العربية من "أن فادييف ومع إعجابه بأبطاله الفتيان، فإنه لم يشأ وصفهم بأية سمات تبتعد بهم عن أرض الواقع". وذلك ما قد يفسر ما قيل "إن غرابة الشيء المألوف رسمت وحددت ملامح جوهر رومانسية الكاتب". ومضى أوزيروف ليقول "إن فادييف كان قريباً من الكاتب السوفياتي الذائع الصيت ماكسيم غوركي في سعيه للتركيز على القدرات الأخلاقية السامية لأولئك الأبطال البسطاء المتواضعين". ومن اللافت في هذا الصدد أيضاً ما كتبه عدد من نقاد رواية "الحرس الفتي" حول "أن فادييف كتب هذه الرواية متأثراً بأسلوب تولستوي". وذلك ما اعترف به ألكسندر فادييف، بما كشف عنه من "تأثره غير الإرادي"، ببعض السمات المميزة للغة تولستوي".
ظاهرة أدبية
وعن رواية "الحرس الفتي" يقول أوزيروف: "إنها ظاهرة أدبية شديدة التميز والفرادة. ففيها تتجسد الحقيقة المرة للحياة وتعمر بالتفاصيل الغزيرة، وتعكس التصاعد الرومانسي لأحداثها إلى جانب ما تذخر به من صفاء نفسي رقيق، وعاطفة وجدانية جياشة، وتأمل فلسفي عميق عن الحياة، وعن الناس، وعن النفس. إنها عبارة عن مواقف نفسية من وحي خيال المؤلف، عن تغير النفس البشرية بحسب تصورات فادييف، فضلاً عن كونها تسجيلاً وثائقياً شديد الدقة والصرامة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على أن كل ذلك لم يكن مقنعاً بما فيه الكفاية لزعيم الدولة جوزف ستالين الذي كان حضر عرضاً خاصاً لفيلم "الحرس الفتي" الذي أخرجه المخرج السوفياتي العالمي سيرغي غيراسيموف في عام 1949. وتقول المصادر الرسمية إن الجدل احتدم طويلاً حول هذا الفيلم وشارك فيه ستالين ووزير داخليته بيريا في حضور أعضاء المكتب السياسي، ووزير صناعة السينما إيفان بولشاكوف، ومخرج الفيلم غيراسيموف، فيما غاب ألكسندر فادييف الذي سافر عامداً متعمداً إلى لينينغراد. وتمحور النقاش بين من حضر ذلك العرض الخاص للفيلم، حول دور الحزب الشيوعي في قيادة المقاومة، وهو ما قال ستالين إنه لم يشهد له تجسيداً في ذلك الفيلم السينمائي. وذلك ما جرى إبلاغه للكاتب الذي عكف على تعديل الرواية التي كان كتبها خلال عام وتسعة أشهر، فيما استغرقت التعديلات والإضافات ما يزيد على ثمانية أعوام!
ولم يمض من الزمن الكثير منذ تاريخ ذلك النقاش، حتى هبت رياح التغيير التي حملت معها ما بقي من نفوذ وهيبة لزعيم الدولة ستالين الذي توفي في عام 1953، في أعقاب ما اتخذه الأمين الأول للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروشوف من قرارات حول فضح ما كان يسمى "عبادة الفرد"، تنكيلاً بذكرى ستالين وتاريخه، وهو ما انعكس سلباً على كل من كان يتمتع برعايته ومنهم ألكسندر فادييف الذي قالوا إنه "تمرغ" كثيراً في كنف ستالين ومن معه. ولم يقتصر الأمر على اتهام فادييف بالغطرسة وملاحقة مناوئيه وخصومه في الأوساط الأدبية، بل وتجاوز ذلك إلى تنحيته عن كل ما كان يشغل من مناصب على المستويين المحلي والعالمي. وذلك ما يقف في صدارة إقدام ألكسندر فادييف على الانتحار برصاصة من مسدسه في 13 مايو (أيار) 1956 في مسكنه في ضيعة "بريديلكينو" الواقعة غرب العاصمة موسكو، تاركاً خلفه رسالة موجًهة إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، حمل فيها على القيادة الحزبية التي قال إنها تواصل سياسات تدمير إنجازات الأدب والثقافة والفنون. وتقول المصادر الرسمية إن هذه الرسالة التي حاول فادييف من خلالها تفسير سرّ قراره حول الانتحار من جانب، وفضح سياسات القيادة الحزبية الجديدة من جانب آخر، لم يعلم بها أحد، بعد تعمد عدم الإعلان عنها، ليظل أمر وجودها سراً دفيناً لما يزيد على الثلاثين عاماً. أما عن سبب انتحار من كان ملء السمع والبصر ونجم الأوساط الأدبية والحزبية لما يزيد على ربع قرن، فقد أوجزته أوساط الدولة الرسمية ومنها اتحاد الأدباء السوفيات الذي سبق وترأسه فادييف لما يقرب ما ثمانية أعوام، فكان إعلاناً جرى تعليقه على مدخل مقر اتحاد الأدباء وفيه، الكاتب ألكسندر فادييف قضى نحبه بسبب "إدمانه الخمور"!