يُعرف ألكسندر غريبويدوف (alexander griboyedov) بوصفه الجموح الذي لم يستقر على تخصص أو وظيفة. ومع ذلك تعترف الأوساط الأدبية والمحلية بأنه يظل الأنصع موهبة وصاحب الخصائل والقدرات المتعددة بين قرنائه ونظرائه طوال كل سني حياته الوظيفية والأدبية منذ ولد في 15 يناير (كانون الثاني) 1895. وعلى الرغم من كل ذلك، لم يأخذ ألكسندر غريبويدوف نصيبه، الذي يستحق من الشهرة، وأن تظل روائعه ملء السمع والبصر، في ما أفرد له مصرعه المأساوي داخل سفارة بلاده في طهران، وكان سفيراً للإمبراطورية الروسية في بلاد الفرس، موقعاً متميزاً في تاريخ الدبلوماسية الروسية.
عنه قال ألكسندر بوشكين أكبر وأشهر شعراء روسيا ومؤسس لغتها الحديثة، إن "ألكسندر غريبويدوف، أحد أذكى أبناء الإمبراطورية الروسية ... يجب الاستماع إليه". تاريخه حافل بكثير من الطرائف والمغامرات التي بلغت أسماع الإمبراطور، وكانت سبباً في صدور أمر اعتقاله واقتياده مكبلاً بالأصفاد من مقر إقامته في جورجيا إلى العاصمة لمحاكمته.
السيرة الذاتية لألكسندر غريبويدوف تقول، إن ميلاده في كنف عائلة من نبلاء ذلك العصر وفر له كثيراً من الامتيازات، التي سرعان ما آتت ثمارها استناداً إلى ما حباه الله به من مواهب وقدرات طبيعية جعلته في صدارة قرنائه منذ أولى سنوات دراسته. أصوله الطبقية أسهمت في أن يكون شاهداً متابعاً لأشهر رموز العصر من شعراء وفنانين وموسيقيين وسياسيين ممن كانوا ضيوفاً دائمين على مجالس العائلة. كما أن ما حظي به من إمكانات خاصة تتلمذ من خلالها على أشهر رموز التربية والتعليم والثقافة، خلقت منه إنساناً موسوعي الثقافة، مستوعباً لثلاث لغات أجنبية، ولم يكن تجاوز السادسة من العمر، ليضيف لاحقاً إليها ست لغات أخرى، منها الألمانية واللاتينية والإنجليزية والفرنسية واليونانية والإيطالية، فضلاً عن قدرات خاصة كالعزف على البيانو والكمان.
وتأكيداً لموهبته وقدراته يقول التاريخ إنه التحق بجامعة موسكو أكبر وأشهر الجامعات الروسية في سن الحادية عشرة، لينهي علومها الإنسانية في عامين بدلاً من خمسة، ليتحول بعدهما إلى عدد من أقسام علومها الطبيعية، وهو ما يعد معجزة بكل المقاييس. وما أن بلغ السابعة عشرة من العمر حتى التحق بالجيش في محاولة للمشاركة في الدفاع عن الوطن حين داهمته جحافل نابليون في عام 1812. وفي عام 1815 ترك غريبويدوف الخدمة العسكرية، لينتقل إلى سان بطرسبورغ حيث الحياة الصاخبة العاصفة، التي اكتسبت معها مواهبه الأدبية أبعاداً متميزة، وهي التي كانت ظهرت على استحياء في مقتبل العمر.
من الخدمة إلى الأدب
ترك أديبنا الشاب الخدمة المدنية والحياة الوظيفية استجابة لأحلام قديمة بالشعر والأدب. وكانت النتيجة كوميديا خفيفة اختار لها اسم "الزوجان الشابان"، وهي المسرحية التي سرعان ما وجدت طريقها لتجسيدها على أحد مسارح المدينة، ولقيت قبولاً لا بأس به بين الأوساط الأدبية والثقافية، وأتاحت له فرصة الانغماس في حياة المدينة الصاخبة. فمن عضوية المحافل الماسونية، إلى المشاركة في الجمعيات الثورية السرية، ومنها إلى الانخراط في كثير من الجمعيات الأدبية والفنية، وهو ما أثار قلق العائلة، وكان سبباً لأن تبذل الأم قصارى جهدها لإبعاده عن هذه الأنماط الحياتية المثيرة للجدل. ومن هنا كان انتقاله إلى عالم الدبلوماسية، الذي ولجه سكرتيراً ثانياً في سفارة بلاده في طهران. وهناك قضي غريبويدوف قرابة العام ونصف العام قريباً من بلاط شاه إيران، ليسجل خلال تلك الفترة ما صادفه من أحداث وما عاشه من انطباعات، متأثراً بكثير من المضايقات، غادر غريبويدوف طهران قاصداً جورجيا في خريف عام 1821. وهناك انغمس في ما كان مولعاً به من نظم للشعر وتسجيل بعض ما عايشه من أحداث في صيغة انتقادية كانت سبباً في سخط القيصر على ضوء ما قيل حول، إن "كتابات" غريبويدوف كانت ضمن مجمل الأسباب التي أشعلت نيران انتفاضة الديسمبريين في عام 1825.
على أن مسرحية " ذو العقل يشقى" أو كما تترجم على نحو آخر هو "ويل من الذكاء"، التي بدأ كتابتها في جورجيا وأكملها خلال إقامته في موسكو، تظل أشهر روائعه الخالدة، التي تحتفظ بأهميتها وحيوية مضمونها حتى اليوم. وثمة ما يشبه الإجماع من جانب الأوساط الأدبية المحلية والعالمية، حول أن هذا العمل الأدبي يظل إحدى أهم الكلاسيكيات الأدبية المسرحية في تاريخ الأدب الروسي. وتقول المصادر الأدبية الروسية، إن كثيرين من كبار أساطين الأدب الروسي تأثروا بها، ومنهم ميخائيل دوستويفسكي وانطون تشيخوف، فيما أعرب عن شديد إعجابه بها ألكسندر بوشكين، الذي كان غريبويدوف اقترب منه كثيراً. ومن اللافت أن هذه المسرحية التي سخر فيها الكاتب من مجتمع ما بعد حملة نابليون في عام 1812، ظلت قيد المتابعة والرقابة لفترة طويلة استمرت إلى ما بعد وفاته، ولم تُجِزها الأجهزة الرقابية وتجد طريقها إلى النشر إلا في عام 1833، أي بعد وفاة كاتبها بقرابة الأربع سنوات. وكانت الرقابة في روسيا فرضت حظراً عليها لما تتضمنه من سخرية وانتقاد لسلوكيات الصفوة وعلية القوم في ذلك الحين، وما أمعنت في انتقاده من علاقات نفعية زائفة كانت السمة السائدة في ذلك العصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومما يقال بصدد هذه المسرحية، إن إيفان كريلوف الأديب صاحب الهجائيات المعروفة، كان تنبأ بعد اطلاعه عليها بأن الرقابة لن تسمح بها، وهو ما دفع كاتبها إلى نسخ 45 ألف نسخة منها كتبها ومساعدوه بخط اليد لترويجها بعيداً عن أعين الرقابة. ويذكر مؤرخو تلك المرحلة "أن هذه المسرحية الشعرية الكوميدية الهجائية، كانت الأكثر سخونة في ذلك العصر، بما تضمنته من نقد ساخر وما أثارته من جدل احتدم بين نقاد ذلك الحين، لما استعرضته من محاكاة ساخرة مثيرة للشفقة لأرستقراطيي ذلك الزمان، وما كانوا يعيشونه من أنماط حياة". غير أن أوساط نقاد ما بعد ذلك الزمان، كشفوا عن عالي تقديرهم لهذه المسرحية الشعرية، التي قال فيساريون بيلينسكي أحد أهم نقاد منتصف القرن التاسع عشر، إنها نموذج للواقعية الروسية، وهو تقدير مماثل لما استقرت عليه آراء أبرز رموز ذلك الزمان ومنهم بوشكين وغوغول، ودوستويفسكي وكذلك تشيخوف في وقت لاحق، على غرار ما خلص إليه نقاد القرن العشرين في الاتحاد السوفياتي السابق.
ونأتي إلى النهاية المأساوية لغريبويدوف ذلك الأديب المثير للجدل، لننقل بعضاً من مشاهد نهايته ومصرعه الدرامي، وكان آنذاك سفيراً لبلاده في بلاد فارس، في توقيت شهد تصاعد أوار العداء لروسيا، بعد الحرب الروسية الإيرانية على وقع ما اضطرت إيران إليه من تنازل عن أراض كانت تابعة لها في مناطق جنوب القوقاز. ويقال إن فتاتين أرمينيتين من جواري قرينة الشاه لجأتا إلى السفارة الروسية طلباً لإعادتهما إلى وطنهما. وأعلن السفير الروسي غريبويدوف رفضه لطلب الشاه حول إعادتهما، ما أشعل غضب الجماهير والرعاع الذين هاجموا مقر السفارة وموظفيها، ما أسفر عن مصرع كثيرين ومنهم السفير، الذي لقي حتفه على أيدي قاتليه ممن قاموا بقطع رأسه وإلقائه من نافذة أحد مكاتب السفارة، وتعليقه في وقت لاحق بأحد الأكشاك التجارية المواجهة للسفارة، ما أثار في حينه أزمة كبرى بين البلدين. وتقول المصادر، إن الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين سافر إلى هناك بعد أربعة أشهر من تاريخ الحادث في عام 1829، لاستعادة ما بقي من جثمان السفير ودفنه في عاصمة جورجيا.