Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

6 أشهر على انفجار بيروت ولبنان اليوم على شفير الانهيار

بعد الانفجار الهائل الذي دمر قطاعات واسعة من العاصمة اللبنانية في أغسطس الماضي، يواجه البلد مجموعة من الأزمات قد تدفعه إلى الهاوية

النيران تتصاعد من إهراءات القمح المدمرة في موقع انفجار مرفأ بيروت (غيتي)

تحت أضواء هواتفهم النقالة، راح أفراد الفريق الطبي في مستشفى سان جورج الجامعي في بيروت يمشون بين جثث الموتى كي ينقلوا الجرحى من زملائهم، ومن المرضى نزلاء المستشفى، ويضعونهم على أغطية أسرة وزعت في مواضع مختلفة بين حطام البناء ذي الطبقات التسع. وقد التقت عند مدخل المستشفى المحطم موجة عاتية من الجرحى قادمة من خارجه، بموجة جرحى عاتية أخرى قادمة من الأحياء السكنية المحيطة. وفي الوسط بين الموجتين، وقف أفراد الفريق الطبي مذهولين، وكانوا ما زالوا ملطخين بالدماء، ثم ما لبثوا أن ارتجلوا فسحةً مؤقتة لمعالجة جرحى الموجتين، في موقف السيارات الخارجي.

في ذلك المساء، وقبل لحظات قليلة من هذا المشهد، منذ ستة أشهر بالتمام، هز واحد من أكبر الانفجارات غير النووية في زمننا المعاصر، وسط بيروت، إذ اشتعلت النيران في بضعة آلاف من أطنان المواد المتفجرة المُخزنة كيفما اتفق في مرفأ بيروت، وانفجرت تلك المواد وبثت عبر المدينة حلقة من تيارات ضغط، هشمت واجهات المباني ومزقت أسطحها، وطاولت تيارات الضغط تلك مبنى مستشفى سان جورج، فدمرت غرف العمليات وأجنحة المرضى وأقسام العناية المركزة.

وكانت رولا فرح، رئيسة قسم التمريض في مستشفى سان جورج، توجه من بقي من فريقها وسط ذلك الكابوس للقيام بالمهمة المستحيلة المتمثلة بمحاولة إخلاء مرضى فيروس كورونا الجرحى، بأمان، من دون نقل العدوى إلى المتواجدين هناك. وتروي رولا عن هذا قائلة "كان علينا، وسط كل ذلك، انتظار وصول سيارات إسعاف خاصة كي تنقلهم (الجرحى). ما حصل يعصى التصور".

اليوم بعد مرور نصف عام على الانفجار الكارثي الذي قتل أكثر من 200 شخص، وجرح بضعة آلاف، ودمر قرابة ربع مليون مسكن، فإن مستشفى سان جورج وأعضاء الفريق الطبي العاملين فيه أمثال رولا فرح يجدون أنفسهم مرة أخرى عند الخطوط الأمامية في مواجهة الكوارث المستجدة التي تعصف بلبنان.

فالبلد ينساق شيئاً فشيئاً نحو انهيار كامل، فيما ينوء اللبنانيون تحت ثقل أزمة ثلاثية الأبعاد، عاقبة الانفجار الذي خلّف قطاعات واسعة من العاصمة أنقاضاً وحطاماً، والطفرة غير المسبوقة في إصابات فيروس كورونا التي يترنح تحتها نظام الرعاية الصحية في البلاد، والانهيار المالي الذي أدى بأكثر من نصف سكان البلاد البالغ إجمالي عددهم 7 ملايين نسمة للعيش تحت مستوى خط الفقر.

وكان المجتمع الدولي في هذا الإطار وعد بتقديم الدعم للبنان، الذي قد يؤدي تصدعه وانفجاره إلى إشعال المنطقة برمتها، التي تشبه اليوم برميلًا من البارود. إذ إن هذا البلد الصغير على ساحل البحر الأبيض المتوسط يستضيف اليوم زهاء مليوني لاجئ سوري وفلسطيني هم سلفاً يعانون الإنهاك والفقر المدقع. كما يرتبط الاقتصاد اللبناني من جهة أخرى بتشابك وثيق باقتصاد جارته التي تمزقها الحرب، سوريا، هذه الأخيرة المعتمدة بشكل كبير على القطاع المصرفي اللبناني. وليس هناك حتى الآن إشارات توحي بانحسار أي من هذه الضغوط القصوى عن لبنان.

في السياق ذاته، كان على حكومة تصريف الأعمال التي تتولى إدارة شؤون البلاد أن تفرض حظراً للتجوال على مدار ساعات اليوم، طوال ثلاثة أسابيع ونصف (وذاك يعد من أقسى الإغلاقات في العالم) لمحاولة الحد من انتشار فيروس كوفيد 19. بيد أن غياب برامج الدعم المالية الفعالة بموازاة ذلك، استدعى تحركات وتظاهرات ضد الجوع في جميع أنحاء البلاد. وفي هذا الإطار شهدت طرابلس (المدينة الأفقر) في لبنان، مواجهات دامية بين المتظاهرين والقوى الأمنية.

وفي سياق متصل، يستمر مواطنون غاضبون بتحركاتهم مطالبين بأجوبة السلطات عن أسباب الانفجار الذي عصف ببيروت في شهر أغسطس (آب) الماضي. إذ إن التحقيق في الانفجار، الذي بدل وهشّم حياة كثيرين، قد جرى تعطيله منذ اتهام رئيس الحكومة (حسان دياب) في شهر ديسمبر (كانون الأول) المنصرم بالإهمال والتقاعس الجرميين.

والآن حيث لا تبدو للعيان نهاية قريبة للتعاسة القائمة، يبدو لبنان وقد دفع دفعاً كي يترنح على حافة الهاوية. إزاء هذا يقول العاملون في مستشفى سان جورج من جهتهم، إنهم مرة أخرى يجدون أنفسهم متروكين لتحمل الأعباء بمفردهم، فيما يتخبط البلد بين "أزمة وأخرى". وعلى الرغم من الترميم الجزئي الذي خضع له المستشفى بعد الانفجار، وعلى الرغم  من المعاناة التي يواجهها لشراء الإمدادات والمسلتزمات الطبية في خضم شح العملة الصعبة، فإن مستشفى سان جورج بات يمثل مركزاً أساسياً لعلاج المصابين بفيروس كورونا. وها هو اليوم يعج بالمصابين.

وكان لبنان منذ أن رُفعت تدابير الإغلاق على نحو مثير للجدل خلال موسم عيدي الميلاد ورأس السنة، شهد ارتفاعاً يومياً حاداً بإصابات فيروس كورونا، وذاك ارتفاع كسر كل الأرقام القياسية للإصابات المسجلة سابقاً. ويقدر عدد المصابين بالفيروس اليوم بـ 300 ألف شخص، كما تجاوز عدد الوفيات الثلاثة آلاف. هذا ويتعاظم معدل الوفيات جراء الفيروس.

ويتحدث في هذا السياق أفراد الفريق الطبي في مستشفى سان جورج عن حالات يقومون فيها بعلاج المرضى في سياراتهم، أو على المقاعد في ردهة الانتظار، أو حتى على الرصيف أمام المستشفى، وذلك نظراً إلى عدم توفر أسرة إضافية للمرضى. وذكرت هيئة الصليب الأحمر يوم الأربعاء المنصرم، أن إشغال أسرة المستشفيات المتوفرة في لبنان بلغ معدلاً جاوز الـ 100 في المئة. وعن هذا الأمر تقول رولا فرح، متحدثة من غرفة في المستشفى، ما زال جزء من سقفها المدمر يتدلى، "بلغنا الآن كامل قدرتنا، غرف الطوارئ عندنا المخصصة لحالات أخرى غير كوفيد، باتت تستقبل المصابين بفيروس كورونا الذين هم في حالة حرجة، لأنه لم يعد هناك مكان آخر لاستقبالهم"، وتردف فرح "ثلث فريق التمريض مصاب بالفيروس. نعاني نقصاً في أعداد فريق العمل، وبتنا مرهقين نعمل في الوقت الإضافي".

أمل ضئيل بالعدالة   

كانت سارة كوبلاند، الحامل في مرحلة متقدمة، تُطعم ابنها إسحق البالغ سنتين من عمره، والجالس في كرسي مرتفع مخصص للأطفال، حين سمعت بعد دقائق قليلة من الساعة السادسة مساءً ضجيجاً غير اعتياد يأتي من جهة مرفأ بيروت. وقد هرعت السيدة الاسترالية الموظفة في الأمم المتحدة نحو النافذة لتستطلع ما الذي يجري في الخارج، لكنها لم تر شيئاً. الانفجار الضخم الذي قذفها لتسقط أرضاً حدث فيما كانت تخطو عائدة إلى ابنها. وتروي سارة الواقعة، قائلة "دخل زوجي مسرعاً، واندفعنا وتناولنا ابننا من كرسيه المرتفع. لم نعرف إن كان ذلك هجوماً إرهابياً أو أن المدينة تتعرض للقصف". سرعان ما أدرك الزوجان أن ابنهما تلقى طعنة في صدره من قطعة زجاج متطاير مصدرها باب الشرفة الجرار.
تتابع كوبلاند "في الحمام لاحظنا مدى خطورة إصابة إسحق، وهرعنا إلى الخارج نطلب المساعدة، كان المشهد خيالياً، ناس ممدون في الشارع، والزجاج والحطام في كل مكان". أردفت "من تلك اللحظة وما تلاها لم تعد الأشياء واقعية، كنا كأننا في فيلم". وإسحق، الطفل المفعم بالحيوية ومهجة قلب والديه، توفي بعد ساعات قليلة، ليغدو أحد أصغر الضحايا   الـ211 الذين سقطوا في انفجار بيروت.
وأصيبت كوبلاند بدورها وقضت أياماً في المستشفى في بيروت قبل نقلها إلى ديارها، مدينة بيرث الاسترالية. وهناك أنجبت ابنها الثاني، إيثان. لكن، وبعد مرور ستة أشهر من تلك الواقعة، ما زالت هذه العائلة الصغيرة تجهد وتعاني لتقبّل ما أصابها، وينتابها الخوف من أن ينسى العالم تلك الكارثة.
عن هذا الأمر تقول كوبلاند، بصوت متهدج، "إنه أقسى شيء مررت به في حياتي، وأعرف أنني لن أتخطى ما حصل". تتابع "أشعر مع الناس الكثيرين العالقين في لبنان. الذين لا يحظون حتى بفرصة لتجاوز أزمة تحل بهم قبل حلول الأزمة الثانية".
وتفصح كوبلاند عن قلقها من أن ينتهي بسرعة الاهتمام الدولي بالعاصمة اللبنانية، على الرغم من أن أناساً كثيرين أزهقت أرواحهم، من بينهم طفلها. "من المهم ألا ينسى العالم ما حصل في بيروت" تقول السيدة.

هذا الشعور من الأسى يمكن أن يتحسسه المرء كثيراً في كل أنحاء العاصمة اللبنانية المنكوبة، حيث أن الكثيرين أيضاً هناك غاضبون من غياب الأجوبة حول ما حصل، ومن غياب العدالة. عفيف مرهج (41 سنة) يقول أن شقيقه قيصر (36 سنة)، موظف الأمن في المرفأ "لم تكن لديه أي فكرة عما سيحل به" عندما بدأ دوامه المسائي في ذلك اليوم المشؤوم. الرسالة الأخيرة الذي بعثها قيصر، الأب لطفلين، كانت لصديق يخبره فيها أنهم طلبوا منه التوجه إلى الهنجار رقم 12 للتحقيق في حريق اندلع فيه، وهو المخزن الذي تعلم السلطات أنه يحوي آلاف الأطنان من المواد المتفجرة الخطيرة. لكن قيصر لم يكن يعلم ذلك، وقال إن الهنجار رقم 12 ربما يحوي ألعاب نارية.

بعد ستة أشهر من ذاك الانفجار تشعر العائلات التي فقدت أحباء لها بخيبة أمل تجاه سير التحقيقات، وتتخوف من أن تعرقل الحسابات السياسية كل المحاولات الآيلة للوصول إلى الحقيقة. في هذا الصدد يقول عفيف لـ"اندبندنت"، وهو على وشك البكاء، "أريد أن أرى كل من كان مسؤولاً عما حصل في قفص الاتهام، كما أريد من القاضي الذي يتولى القضية ألا يتغاضى عن أي شخص كان له علاقة".

هذا الغضب من غياب الأجوبة تجاه ما حصل ومن أداء الحكومة بعد الانفجار الذي اضطَر المواطنين المدنيين إلى النزول بأنفسهم ورفع الانقاض وتنظيف الشوارع، أدى العام الماضي إلى تظاهرات في أنحاء مختلفة من البلاد كانت نتيجتها استقالة الحكومة بكاملها. وإلى الآن بعد ستة أشهر ما زالت الأحزاب المتحكمة بالسياسة اللبنانية عاجزة عن التوافق على تشكيل حكومة جديدة، ما وضع البلاد في حالة سياسية معلقة تعيق وصول الدعم الخارجي. كما أن التحقيق في الانفجار جرى تعطيله منذ 17 ديسمبر الماضي.

في هذا الإطار دعت منظمة "هيومن رايتس واتش"Human Rights Watch يوم الأربعاء المنصرم إلى إجراء تحقيق دولي مستقل في انفجار بيروت، مشيرة إلى ما تعرض له التحقيق المحلي من عرقلة وانتهاكات خطيرة لمجرياته، ومحاولات قام بها زعماء سياسيون لوقفه.

وبحسب وثائق وشهادات اطلعت "اندبندنت" عليها، فإن مسؤولي المرفأ والجمارك، ومسؤولين كبار في الأجهزة الأمنية، ورئيس الوزراء، ووزراء عديدين حاليين وسابقين، ورئيس الجمهورية، كانوا جميعاً على علم بمخزون نترات الأمونيوم الخطير القابع في مرفأ بيروت، لكنهم لم يحركوا ساكناً.
وتعود الوثائق إلى سنة 2014 عندما وصلت هذه المواد التي تستخدم في صناعة الأسمدة الزراعية والقنابل والمتفجرات إلى بيروت على متن سفينة ترفع علم مولدوفيا، وتُظهر الوثائق المذكورة تحذيرات متكررة من خطورة هذه المواد المتفجرة أصدرها مسؤولون لبنانيون.
ولغاية شهرين فائتين وُجه الاتهام فقط إلى 37 موظف أمن وجمارك في المرفأ منخفضي ومتوسطي الرتبة، وذاك أطلق موجة من الانتقادات لقاضي التحقيق، فادي صوان، لتجنبه تحميل المسؤولية لسياسيين كبار.
بيد أن صوان عاد في 11 ديسمبر، وقام بخطوة استثنائية تمثلت في توجيهه الاتهام لرئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، ولوزير المالية الأسبق علي حسن خليل، إضافة إلى غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، وزيري الأشغال العامة الأسبقين.
وأثارت خطوة اتهام وزراء غضب أطراف سياسية نافذة عديدة، من بينها "حزب الله" الذي أدان القرار (قرار القاضي صوان). ومنذ ذلك الوقت يرفض الوزراء الثلاثة المتهمون المثول أمام التحقيق ويدّعون براءتهم.
دياب (رئيس حكومة تصريف الأعمال) من جهته، وصف قرار صوان بأنه "خبيث" غايته إلصاق التهمة به (بدياب) وحده.
من جهته وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال أعلن في هذا السياق، أنه لن يطلب من القوى الأمنية القيام بتوقيف المتهمين، حتى لو أصدر قاضي التحقيق مذكرات توقيف بحقهم. وفي شهر يناير (كانون الثاني) أعلنت محكمة التمييز أن في وسع صوان استئناف تحقيقاته تزامناً مع قيامها بمراجعة دعوات لاستبداله. أما بالنسبة إلى ذوي ضحايا الانفجار، فإن تعطيل التحقيق لا يثير إلا مزيداً من الأسئلة الموجعة التي تبقى إلى الآن من دون إجابات.

هبوط شامل نحو الهاوية    

عمر طيبة، ابن الـ29 سنة، لم يكن معدماً تماماً. لكنه بعد عدة محاولات فاشلة للاحتفاظ بعدد من وظائف الدوام الجزئي، وإثر فترة قضاها محاولاً العثور على وظيفة في تركيا من دون أن ينجح، فقد أضحى يائساً، وكانت موجة الغضب التي تكونت في بيروت تراكمت وجابت البلاد وبلغت طرابلس، المدينة الأفقر في لبنان، الواقعة على بعد 80 كيلومتراً من بيروت شمالاً، حيث عاش عمر طيبة.

وكان دخان قنابل الغاز ورصاص البنادق الحربية غطى، على مدى الأسابيع القليلة الفائتة، ساحة التظاهرات الرئيسة في طرابلس، حيث تحولت التجمعات هناك إلى صدامات بين المتظاهرين ومجموعات الجنود ورجال الأمن.
ويوم الأربعاء المنصرم خرج عمر للمشاركة في تلك التظاهرات ولم يعد. والده فاروق، من حيهم الفقير في طرابلس يروي لـ"اندبندنت" قائلاً، "شارك ابني في التظاهرات لأنه كان غاضباً". أردف والد عمر "حاول إيجاد طريقة لإعالة نفسه، لكن في ظل الحالة الاقتصادية الراهنة من الصعب أن يؤمن المرء مستقبله".

ويقبع لبنان منذ فترة ليست قصيرة في قبضة أزمة مالية غير مسبوقة تراكمت بفعل الفساد وسوء الإدارة المستفحلين على مدى عقود. وبلغت الأزمة ذروتها في ظل الجائحة، وبعد انفجار أغسطس الذي ألحق أضراراً فادحة تقدر بمليارات الدولارات، كما دفع 70 ألف شخص إلى فقدان وظائفهم، بحسب تقديرات المجلس النرويجي للاجئين Norwegian Refugee Council.
وخلال السنة الفائتة فقدت الليرة اللبنانية 80 في المئة من قيمتها، وارتفعت أسعار بعض السلع بمعدل زاد على أربعة أضعاف أسعارها السابقة. ووفق الأمم المتحدة يعيش الآن 55 في المئة من إجمالي سكان لبنان تحت خط الفقر، وذاك يعني أنهم يعيشون على بضعة دولارات في اليوم. هذا وشهد الاقتصاد اللبناني انكماشاً خلال السنة الفائتة بمعدل بلغ 20 في المئة.

أمام هذه المعطيات فإن الأمر يعني أن الكثيرين من اللبنانيين لم يعد بوسعهم إطعام عائلاتهم، حتى أن الطبقة الوسطى في المجتمع اللبناني باتت تعتمد على تقديمات الجمعيات الخيرية للبقاء والعيش.

في هذا الإطار، تُعد طرابلس من أكثر المناطق اللبنانية تأثراً بهذه الأزمة، حيث كانت معدلات الفقر والبطالة فيها مرتفعة على الدوام، وقد صارت المدينة الشمالية المذكورة مسرحاً للتظاهرات، ولعبت دوراً مركزياً في الانتفاضة التي اندلعت في لبنان سنة 2019، بيد أن موجة الاضطرابات عادت وتجددت في طرابلس الشهر الفائت بعد أن فرضت الحكومة حظراً للتجوال على مدار ساعات اليوم، طوال ثلاثة أسابيع ونصف لمواجهة فيروس كورونا. وذاك أمر أدى في الواقع إلى احتجاز عائلات بكاملها في بيوتها وقطع شرايين الحياة ومصادر الرزق عنها. وينبغي القول في السياق إن نحو نصف القوى العاملة اللبنانية تعتمد على الأجور اليومية التي تُدفع عادةً بالعملة الوطنية (الليرة اللبنانية).

من جهتها اعترفت حكومة تصريف الأعمال (برئاسة حسان دياب، التي تدير شؤون البلاد راهناً) بالضغوط المالية التي يرزح تحتها اللبنانيون، وأعلنت الأسبوع الفائت أنها ستمنح 230 ألف عائلة من العائلات الأكثر عوزاً، مبلغ 400 ألف ليرة في الشهر، أو ما يعادل أقل من 50 دولاراً بحسب سعر السوق، وذلك لمساعدتها في تدبير عيشها.
إلا أن كثيرين من سكان لبنان اليوم أمثال عمر طيبة، ما زالوا يترنحون تحت الضغوط والأزمات، وهذا في الأساس ما جعل عمر ينضم إلى التظاهرات والتحركات الاعتراضية، وهو بعد انضمامه إلى التحرك الذي حصل مساء الأربعاء 27 يناير الماضي، أصيب برصاصة في ظهره ونقل على الأثر إلى المستشفى "لكنه لم ينجُ"، بحسب تعبير والده المشرف على البكاء، "ما نريده فقط هو العدالة لولدنا" يردف فاروق والد عمر. واعترفت القوى الأمنية اللبنانية من جهتها باستخدامها الرصاص الحي، بيد أنها قالت إن ذلك كان في معرض الدفاع عن النفس بعد أن بادر المتظاهرون إلى العنف.
ومقتل عمر لم يسهم إلا في إزكاء الغضب في طرابلس، حيث تتابعت التظاهرات وأُحرق مبنى بلدية المدينة، وعن خلفية ما حدث تصرخ سارة، إحدى المشاركين في تظاهرات يوم الجمعة المنصرم، قائلة "لا وظائف، ولا نملك شيئاً، ولا طعام، الحكومة تستخدم العنف ونحن نجوع حتى الموت". تردف سارة "كل ما نريده هو أن نجد ما نأكله، هذا كل ما في الأمر".

بيد أن الأمل في الأفق يبدو ضئيلاً. إذ يتوقع عمر نادر، الاقتصادي ومدير "معهد المشرق للقضايا الإستراتيجية" في بيروت Levant Institute for Strategic Affairs أن ينفد خلال أسابيع احتياطي العملات الأجنبية الموجود في مصرف لبنان (المصرف المركزي)، وهو الاحتياطي المطلوب لإبقاء برنامج الدعم العالي الكلفة على سلع أساسية مثل القمح والأدوية والوقود. في هذا الإطار قال رئيس الحكومة (حكومة تصريف الأعمال) حسان دياب لوكالة "رويترز" في ديسمبر الماضي، إن لبنان يمكنه تقنين مبلغ 2 مليار دولار، وهو المبلغ المتبقي من ذاك الاحتياطي المخصص لدعم السلع الأساسية، وجعله يدوم لستة أشهر إضافية على الأقل. أما عمر نادر فيرى أن توقع دياب هذا مفرط في تفاؤله. واتصلت "اندبندنت" بمكتب رئيس الحكومة (دياب) للحصول على تعليقه حول الوضع الراهن في لبنان، لكنها لم تتلق رداً فورياً. ويقول عمر نادر لـ"اندبندنت" إنه "عندما يتوقف الدعم فإن الاسعار ستحلّق. وذاك سيمثل بداية الانهيار الكامل". كما ذكر نادر أن العجز عن تشكيل حكومة جديدة يسهم أيضاً في منع الإفراج عن المساعدات الخارجية الضرورية لمساعدة لبنان في الخروج من هذه الفوضى، كما تحدث نادر في السياق عن مشكلات أخرى.
إذ يرى الباحث الاقتصادي أن لبنان عما قريب سيكون عاجزاً عن شراء الوقود والمحروقات الضرورية والحيوية، وذاك يعني أن البلد سيفقد الطاقة الكهربائية في عز فصل الشتاء، وكان لبنان يشهد تقنيناً في الطاقة الكهربائية يصل لعشرين ساعة في اليوم في بعض المناطق اللبنانية قبل فترة قصيرة من وقوع انفجار بيروت في الصيف الفائت.
ويستنتج نادر في هذا الإطار أن تكون موجة التظاهرات التي حصلت في طرابلس "تمريناً لما سيأتي لاحقاً". ويوضح قائلاً "تصوروا هذه التحركات تتضاعف وتحصل في مناطق مختلفة من البلاد، تصوروا ما سيحصل عندما ينتهي كوفيد 19 وتتضاعف أعداد الناس في الشوارع، عندما يحصل كل ذلك، فإن الأمر سيكون انحداراً مطلقاً نحو الهاوية".

من جهة أخرى وفي خضم الجائحة، يجهد الأطباء في غرفة الطوارئ في مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت لإنقاذ حياة زميلة لهم، وهي ممرضة تقبع الآن غائبة عن الوعي تحت رحمة جهاز التنفس الاصطناعي.
وكان طفل هذه الممرضة البالغة 39 سنة من عمرها، ولد قبل اكتمال نموه وتحت الخطر إثر عملية قيصرية، لأنها كانت تصارع الفيروس. الوليد الآن في الحاضنة. وثمة مخاوف من أن لا تتمكن الممرضة من النجاة (أبقي اسمها طي الكتمان حفاظاً على الخصوصية).
وخارج مدخل قسم استقبال مرضى كورونا، في هذا المركز الطبي الحكومي يتجمع أفراد من عائلات يخيم عليهم القلق ويحاولون تلقف الأخبار عن أحبائهم الذين يصارعون الفيروس داخل المستشفى. شاب يرتدي كمامة يجلس هناك ويغرق في النحيب مسنداً رأسه بيده.
وكان ذاك اليوم الذي زارت فيه "اندبندنت" المستشفى المذكور، الأسوأ من ناحية عدد الوفيات وفق ما أخبرنا لاحقاً مدير المستشفى الدكتور فراس أبيض. سبعة أشخاص فارقوا الحياة مع حلول بعد الظهر، وعلى الرغم من الدعوات إلى رفع الإغلاق بسبب ما تعانيه البلاد من حالة فقر وجوع، يقول أفراد الفرق الطبية المنهكون في قسم كوفيد 19، إن تدابير الإغلاق تمثل خط الدفاع الوحيد الذي يملكونه في مواجهة الفيروس القاتل.
إحدى الممرضات المنهكات، وقد ساد الاحمرار عينيها المتعبتين، التي يقبع والدها المصاب بفيروس كورونا في غرفة الطوارئ، تقول "أنا متعبة جداً، وأحياناً أشعر بالرغبة في البكاء". ممرض آخر يضيف "ما نريده فقط هو أن يبقى الناس في منازلهم لشهر إضافي". يردف "إن استطعنا الحفاظ على الإغلاق، ربما نحظى بفرصة".

من جهته مدير المستشفى، الدكتور أبيض، يعترف أن تدابير منع التجوال الصارمة في ظل الأزمة المالية الراهنة غير مناسبة، ويرى أن حملة التطعيم وتوزيع اللقاح قد تكون الطريقة الوحيدة للخروج من الأزمة، لكن حتى هذا الأمر قد يمثل حلماً بعيد المنال في لبنان.
إذ إن السلطات أكدت أنها سوف تتلقى الدفعة الأولى من اللقاحات في وقت لاحق من شهر  فبراير (شباط) الحالي، لكن هناك أسئلة تطرح حول كيفية تمويل برنامج التلقيح في ضوء النقص الحاد في العملات الأجنبية.
الأمل الوحيد للبنان قد يتمثل مرة أخرى في دعم يأتي من دول أجنبية. وفي هذا الإطار قال هذا الأسبوع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يقود جهوداً دولية لإنقاذ لبنان، إنه سيزور البلد للمرة الثالثة منذ انفجار أغسطس. بيد أنه مع تعذر تشكيل حكومة جديدة، من الصعب تصور طريقة لوصول الأموال إلى لبنان في ظل اشتراط معظم الدول الأجنبية دعمها بإجراء إصلاحات ملموسة، وذاك الأمر الذي لا يمكن أن تنفذه حكومة تصريف أعمال.

في هذه الأثناء يتحضر الناشطون والمعترضون لمزيد من التظاهرات والتحركات في الأسابيع المقبلة. أما أولئك الذين ما زالوا يعيشون في الأسى جراء الانفجار (من أهل وأقارب الضحايا وغيرهم)، فهم يأملون في أن لا ينسى العالم ما حصل طوال الأشهر الماضية، وإلا فإن الأزمة في لبنان سوف تستفحل. عن هذا الأمر تقول كوبلاند بكلمات تبللها الدموع "إنه لأمر مخز أن يقوم العالم بالتغاضي عن كل ذلك، وكأن شيئاً لم يحصل". تردف كوبلاند "كان إسحق يستحق فرصة في الحياة وقد سُلبت منه. والأمر ذاته حصل مع كل شخص قتل في الانفجار. تلك الفرصة في الحياة سُلبت منهم. لا يمكننا نسيان هذا".                      

© The Independent

المزيد من الشرق الأوسط