تسود وزارة الخارجية السودانية في مرحلة ما بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) سياسة إحلال وإبدال تطبع علاقاتها الدولية، طغى فيها البعد السياسي على الإداري، وواقعياً لم تأت الحكومة الانتقالية بجديد في ما يخص قرارات إعفاء أتباع النظام السابق واستبدالهم بمفصولين من الخدمة منذ انقلاب حكومة الإنقاذ العام 1989، ونشأت صراعات أخرى نتيجة محاصصات حزبية، مما أثر في الأداء الدبلوماسي في وقت يشكل فيه التراشق السياسي المستمر في شأن إزالة التمكين معركة في ساحة الدبلوماسية، إذ أدى غياب الرؤية الواضحة والتفاهم، إضافة إلى غياب ذوي الخبرة، إلى تشويش الصورة الكلية للسودان، وافتقار الوزارة إلى حال التعاطي والتفاعل الدولي، مما جعل الحاجة ملحّة إلى تطوير ثقافة دبلوماسية مواكبة.
حداثة دبلوماسية
يعبر موضوع النشاط الدبلوماسي السوداني عن حداثة بنائه على الرغم من استقلال الخرطوم منذ العام 1956، وما شغله هذا الجزء من قارة أفريقيا من تداخل في العلاقات بين سودان ما قبل الدولة الحديثة وأجزاء أخرى من العالم، باعتباره معبراً للتجارة وملتقى حضارات عربية وأفريقية وأوروبية، وهذه الفترة، على الرغم من طولها، لم تنجح في تكوين تجربة دبلوماسية تسهم في ربط السودان بدول العالم في شكل يتناسب مع وضعه وموقعه، وذلك لتكرار الحكومات العسكرية عليه، وهذا في حد ذاته لا يحد من العلاقات الدبلوماسية، وإنما يكسي الحالات السودانية بحكومات عسكرية ذات طابع أيديولوجي، فقد وُصم حكم الرئيس الأسبق جعفر النميري بالشيوعية ثم بالإسلاموية خلال السنتين الأخيرتين من حكمه، بسبب تقريبه أتباع الحزبين منذ انقلابه على الديمقراطية الثانية عام 1969.
وتبنى نظام الرئيس السابق عمر البشير الإسلاموية الأصولية منهجاً للحكم إلى حين سقوطه، أما في الفترات الديمقراطية القصيرة التي تخللت ذلك، فقد انشغل السودان باستعادة موقعه عالمياً، كما ظلت الدبلوماسية السودانية مشغولة خلال العهود الديمقراطية والعسكرية بحل النزاعات مع دول الجوار والنزاعات الداخلية، مما جعل الدولة تركز نشاطها الدبلوماسي على الصعيد الأفريقي بحكم الانتماء إلى إطارها الإقليمي لتحقيق السلم على مستوى القارة.
قصور دولي
كان بإمكان السودان أن يحدث انتصاراً للدبلوماسية في بيئته الأفريقية بالفرص المُهدرة التي أتيحت له بالتدخل كوسيط في النزاعات الأفريقية، فعدد من دول القارة لعبت أدوراً محورية بحكم الجوار وحسب، ومن دون أي ترجيح في ميزان القوى، لا في الضغط الدبلوماسي وحده، وإنما في الضغط على القوى المتصارعة للحيلولة من دون تدويل قضية أفريقية أو لعبها دوراً في عمليات حفظ السلام أو مخاطبتها المنظمات ذات العضوية الكبيرة، ولا تزال أنماط التدخل الدبلوماسي غير الرسمية في السودان أحد المتغيرات التي لا تأخذ شكلاً جدياً على حساب الشكل الذي تكون فيه موازية للدبلوماسية الرسمية، ولم يشهد التاريخ ظهور قيادات دبلوماسية سودانية في ساحات أوسع أفريقياً أو دولياً، وقد يكون العائق أمام مشاركة الخرطوم الدبلوماسية الإقليمية ،خصوصاً في أفريقيا، تبنيه مبدأ عدم التدخل الذي استمدته منظمة الوحدة الأفريقية ثم الاتحاد الأفريقي من المبادئ الأساسية لحركة عدم الانحياز في "مؤتمر باندونغ" 1955، بيد أن هذا المبدأ يتأرجح عند بقية الدول الأفريقية وفقاً لمصلحتها الدبلوماسية في الإقليم، فقد شهدت قوات حفظ السلام الدولية في عدد من مناطق النزاعات مشاركة قوات لدول أفريقية، غير أن قصور السودان في هذه الناحية واضح، ويمكن تبرير هذه اللامبالاة بوجود مشكلات لوجستية، وأن دبلوماسيته تفتقر إلى روح المبادرة. ونتيجة لمواقف السودان الصلبة تلكأ الاتحاد الأفريقي في التدخل في مشكلة دارفور، وانتظر أربع سنوات بعد وصول الإقليم إلى وضع إنساني خطير، ولم يتقدم إلا بعد تدخل الأمم المتحدة العام 2007، واشترك في عمليات حفظ السلام مع القوات المختلطة التي طالبت بها الحكومة السودانية حتى تسمح بانتشار القوات الأممية في دارفور، بسبب تخوفها من تدويل القضية، وهو ما اتضح لاحقاً أنه لم يكن منه بدّ.
تعقيدات داخلية
على الرغم من التقدم الملموس بعد سقوط نظام البشير، إلا أن الطابع التقليدي للممارسة الدبلوماسية ظل السمة البارزة لها، وهي سمة تعرقل جهود الجهات الدبلوماسية من أجل الاستجابة للتغيير في النظام الدولي المعاصر، وقد استلزم هذا إيجاد تغيير وتكييف في المهمات الدبلوماسية، ولكن الحكومة الانتقالية لم تدرس التغيير الجذري في أداء الدبلوماسية ومعالجتها من أمراض البيروقراطية، وركزت اهتمامها على إزالة أتباع النظام السابق واستبدالهم بالمحالين إلى "الصالح العام" ومفصولي الخدمة منذ انقلاب الإنقاذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ووضعت سياجاً حول "مجلس الصداقة الشعبية"، أحد منشآت النظام السابق، وكان بالإمكان تقنين عمله وحصر نشاطاته التي وسعها نظام "الإنقاذ" ليمكنه من التعامل مع الجهات الرسمية كجسم رديف للخارجية، وتسبب هذا التركيز، من دون إصلاح البنية الدبلوماسية الأساسية، بخلل في الوظائف الدبلوماسية الأساسية التي تعتمد على التمثيل والاتصال، سواء كان بين الدول أم المنظمات الدولية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الوضع خلق تعارضاً داخل وزارة الخارجية ما بين الدبلوماسية الرسمية القائمة على أساس عقلاني، والدبلوماسية الثورية الناشئة عن هدم ما هو قائم، والتغلب على موروثات النظام السابق من تعيين بالمحسوبية على حساب الكفاءة والمؤهلات، غير أن ما أثارته الخلافات حول الوظائف الدبلوماسية في السابق يتكرر في ظل الحكومة الانتقالية، وإن كان بوتيرة مختلفة.
وفي ظل الانقسامات بين القوى السياسية وانعكاساتها على العمل الدبلوماسي وترفعها عن تقبل الانتقادات، تلاشى الدور الفعال للدبلوماسيين مع دور وزارة الخارجية في التمثيل الخارجي، وظل الهاجس مما أسسه النظام السابق مع خلط مفاهيم التحول الديمقراطي بتطهير وزارة الخارجية، ملازمين لأدائها طوال العامين الماضيين، مما أفرز شكلاً سياسياً للأداء حجب أشكال الدبلوماسية وطغى على أخرى، بخاصة الدبلوماسية الاقتصادية التي يحتاج إليها السودان في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى، وانطوى هذا النشاط على اعتبارات سياسية وتنميط للوظائف في الوزارة إلى حد كبير، استناداً إلى ما حمله اتفاق جوبا للسلام باقتسام السلطة، لتظهر التحديات الأخرى في جهود الوساطة في قضية الديون مع أصدقاء السودان، واتباع نهج دولي مجزأ يفتقر إلى التنسيق.
دبلوماسية اقتصادية
يقع السودان ضمن حزام الاقتصادات الأسرع نمواً في القارة الأفريقية، ومع إمكانات التحول الهيكلي والتصنيع والاستثمارات الاستراتيجية التي شهدتها دول شرق أفريقيا وغربها، ظل نصيب السودان متواضعاً من هذه الناحية، وكانت فرصته الوحيدة، بعد رفع العقوبات الأميركية، مع الصين التي انتهجت مع تحولها الاقتصادي، تحويل صناعاتها وعمالتها إلى اقتصادات ذات رواتب منخفضة في أفريقيا، بينها السودان، ولكن الفساد في النظام السابق الذي صاحب فورة إنتاج وتصنيع النفط على يد الشركات الصينية لم يمكّن السودان من الاكتفاء من هذا المورد المهم، بل راكم عليه ديوناً لا يزال يجاهد في حلها سعياً بين إعفائها أو تسويتها.
اتسمت تلك الفترة بانعدام الشفافية حول هذه المنافسة التي امتدت من قطاع النفط إلى قطاعات النقل والبناء والتشييد لبعض المشاريع اللصيقة بالنظام، فقد حلت محل الاستثمارات المدعومة دولياً من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، إذ اتسمت بعدد من التعقيدات نظراً لشروطها حول الشفافية وارتباطها بمراعاة حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي.
تزايدت أهمية العلاقات الدبلوماسية الاقتصادية مع السودان وتمددت صادراته بما فيها الطاقة واكتسبت أهمية كبرى، ومن الواضح أن العلاقات السودانية - الصينية تقدمت على أسس دبلوماسية وسياسية واقتصادية وثقافية، إلا أن العلاقات أُحيطت بكثير من المثالب في قارة ينشط فيها عدد من اللاعبين الدوليين مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وتركيا، واعتمد السودان في العمل الخارجي والتجاري والاستثماري والتنموي على إجراءات رسمية، ومارست الصين وتركيا نوعاً من توظيف القوة الناعمة والدعاية، وتمكنتا من بناء صورة استطاعت جذب الاستثمار الأجنبي، لكن هذه التحركات جُوبهت بكثير من العراقيل مثل البيروقراطية وفقر البنى التحتية، إضافة إلى الصورة القاتمة التي خلفتها الحروب الأهلية الممتدة، مما وقف عائقاً أمام الاستثمارات الأجنبية في قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة والسياحة، وحال من دون بناء فهم لدور السودان في المحيطين الإقليمي والدولي.
مكونات إيجابية
كانت حاجة النظام السابق للبقاء في السلطة مع نبذه دولياً تستلزم القيام بحملة دعائية كبيرة، ولما فقد الدعم الدولي ظل بفضل التنوع على المستوى الإقليمي والدولي يتغذى على هامش الصراعات المتمحورة حول الهوية الدينية أو العربية، ناسجاً لهما بحسب ما تقتضيه الحاجة، أما الحكومة الحالية فحاولت إضافة مكونات دبلوماسية إيجابية جديدة من خلال توسيع صورة السودان إلى ما بعد النزاعات في منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور التي تعارف عليها الرأي العام العالمي، وتبدو هذه المحاولة غير ذات جدوى ببقاء النزاعات على حالها، على الرغم من توقيع اتفاقات السلام، إذ إن التركيز على أن السودان تجاوز هذه المرحلة، تفنده المتابعة الإعلامية العالمية المباشرة، ويكتسب زخماً ببروز ما يوجد في الصورة الكلية له خلف الصراع، وكلما اتسعت صورة المواجهات العنيفة ضاقت مساحة التبرير والتعبير، وضعفت عُرى التفاعل الدولي.