داخل غرفة خاصة مزودة بأجهزة دقيقة تضبط الحرارة والرطوبة، يتفقد عيسى ادعيس (60 سنة) صباح كل يوم أحواضه الزراعية المرتبة بانتظام، فالمرج الأخضر الكبير الذي كانت أغنامه تسرح فيه أصبح مجرد ذكرى، إذ الواقع المرير الذي يعيشه ادعيس في قرية بيت عمره (جنوب الضفة الغربية)، حتم عليه التفكير ملياً في مستقبل أغنامه، فبعيداً من قلة الأمطار والتصحر والجفاف التي أصابت المراعي الفلسطينية، هناك مستوطنات إسرائيلية ومقالع حجر محلية، أحكمت الخناق على ادعيس وأمثاله من المزارعين، حتى بات يبحث عن طوق نجاة لإنقاذ أغنامه قبل نفوقها جوعاً أو مرضاً.
استنبات الشعير
وبمساندة عائلته، تمكن ادعيس من الوصول إلى طريقة "استنبات" علف الشعير الأخضر من دون تربة، ونجح خلال مدة وجيزة في توفير ما يقارب الطنين أسبوعياً.
وحول تجربة الاستنبات يقول ادعيس "ما إن تعرفت على طريقة استنبات الشعير، حتى بدأت في البحث المكثف حول الموضوع، فقلة المراعي الخضر في الضفة الغربية أفقدت المواشي الكثير من الميزات، وبات اعتمادها الكلي في الغذاء على الأعلاف المصنعة والمستوردة، ما دفعني إلى الإسراع في عملية تطبيق الفكرة، وما إن حصلت على استشارات فنية وعلمية من مرشدي وزارة الزراعة، حتى باشرت بتجهيز غرفة صغيرة في فناء المنزل، وترتيب الأحواض البلاستيكية اللازمة لإتمام العملية التي لا تحتاج إلى التربة أو السماد بل المياه، فبعد غسل حبوب الشعير البلدي وتعقيمها، تنثر فوق الأحواض البلاستيكية المصفوفة بترتيب فوق بعضها بعضاً في رفوف، فنظام الغرفة المغلق والمكثّف إلى جانب عمل منظّمات الحرارة والرطوبة والري الحديث، تبعدها عن الإجهاد البيئي كالبرودة الشديدة أو الجفاف أو الملوحة أو الإضاءة الشديدة أو التلوث الجوي، وبمرور سبعة أيام نحصد الأخضر المستبنت ونطعمه للأغنام إلى جانب خلطة من الأعلاف المركزة (عليقة)، ومقابل كل كيلوغرام من الشعير البلدي، نحصل على ثمانية كيلوغرامات من الشعير الأخضر ما وفّر علي الكثير من المال والمجهود".
تعميم الفكرة
ومع أن ادعيس تجاوز الستين من العمر، إلا أنه نجح في نقل تجربته إلى أكثر من 20 مزارعاً في جنوب الضفة الغربية، ومع ارتفاع أسعار الأعلاف المستوردة من إسرائيل، وانحسار مساحات الرعي، وتراجع عدد رؤوس المواشي، دأبت جهات فلسطينية رسمية وخاصة، على تعميم فكرة استنبات الشعير في مناطق مختلفة من الضفة وقطاع غزة، لتحفيز المزارعين على البدء باستخدامها لما لها من انعكاسات مهمة على الثروة الحيوانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خبير الأنظمة الزراعية جلال الألجي يقول لـ "اندبندنت عربية": "اعتماد فكرة استنبات الشعير سيوفر أموالاً طائلة على الفلسطينيين تقدر من 70 إلى 100 مليون دولار سنوياً، وستخفف من الاعتماد على إسرائيل في استيراد الأعلاف المركزة والتي تصل إلى 250 مليون دولار سنوياً، كما أن هذه التقنية على مساحة 1000-1500 متر، تنتج خلال 8 أيام نحو طن ونصف الطن من الشعير المستنبت، وهذا استغلال أمثل للمساحة، إذا ما تمت مقارنتها بالإنتاج بالطريقة التقليدية، التي تعطي 350-400 كيلوغرام شعير في الموسم للمساحة نفسها خلال 6 أشهر، وهذا النمط من الزراعة متبع في الدول الغربية بكثرة، ويتم تشجيعه ودعمه من المؤسسات العاملة في مجال الزراعة والمياه، وإذا ما انتشرت الفكرة جدياً بين المزارعين الفلسطينيين، فسينعكس ذلك إيجاباً على قطاع الثروة الحيوانية والزراعية بشكل ملحوظ، من حيث تقليل التكلفة وزيادة معدل الإنتاج الذي يحسن تلقائياً نوعية الحليب واللحوم وكميتهما، التي ستؤثر بشكل مباشر في صحة المواطن وقدرته الشرائية".
نتائج مبهرة
عام 2019 قام اتحاد جمعيات المزارعين الفلسطينيين بالتعاون مع مؤسسات دولية وأخرى فلسطينية، بعمل بحث تطبيقي علمي، هو الأول من نوعه فلسطينياً، لمعرفة التأثير الحقيقي للشعير المستنبت في زيادة الوزن والأداء لدى خراف التسمين، وإجمالي الصحة العامة للقطعان، وإنتاج الحليب ونوعيته.
وحول نتائح البحث، يقول المدير التنفيذي لاتحاد جمعيات المزارعين عباس ملحم "الهدف الأساسي للتجربة البحثية التي استمرت خمسة أشهر، قياس القدرة الفلسطينية المحلية في خفض تكاليف العلف المستورد من الخارج، وإيجاد مصدر علف محلي، ينعكس إيجاباً على قطاع الثروة الحيوانية ويقلل من تكاليف الإنتاج على مربي الأغنام، ويزيد الحليب واللحوم، إذ تم اختيار مزرعة أغنام في أريحا (وسط الضفة الغربية) وتقسيم الأغنام فيها إلى خمس مجموعات، تم إطعامها بنسب معينة من الأعلاف الخضر (الشعير المستنبت) بإشراف خبير تغذية، وأظهرت النتائج أن استهلاك العلف المركز (المستورد) قد انخفض بنسبة 9 في المئة، ونسبة مكونات الحليب من الدهون والبروتين واللاكتوز انخفضت بنسب معنوية، غير أن فحوصات الدم أثبتت بأن الشعير المستنبث لا يؤثر سلباً في صحة الحيوانات. كما أظهرت نتائج التجربة أن العلف الأخضر تتركز فيه الفيتامينات التي تساعد في رفع نسبة الخصوبة لدى الأغنام وظاهرة التوأمة، فيما لمسنا نتائج مبهرة في تأثير الشعير المستنبت في زيادة وزن قطعان الغنم، ونوعية حليبها وطعمه".
أسعار باهظة
ويتابع قائلاً "استنبات الشعير من خلال الزراعة المائية. فكرة ليست جديدة عالمياً، لكن لإنتاجها بكميات وفيرة محلياً، نحن بحاجة للاستثمار فيها، وتكثيف العمل من أجل إقناع المزارعين بها ودعمهم مادياً لتطبيقها، فخلال السنوات الأخيرة شهدت أعداد الثروة الحيوانية في فلسطين بخاصة الأغنام تراجعاً حاداً، إذ انخفضت من مليون و700 ألف رأس إلى 700 ألف رأس فقط، بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف وعدم قدرة المزارعين على تحمل التكاليف العالية للإنتاج، ما أدى إلى عزوف تجار الثروة الحيوانية عن المهنة وتحولهم إلى نشاطات زراعية أخرى، بحيث يصل سعر كيس الشعير العادي إلى 35 دولاراً، هذا ويحتاج 100 رأس من الأغنام شهرياً إلى ثلاثة أطنان من الشعير".
إرقام وإحصاءات
ووفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يبلغ استهلاك السوق الفلسطينية من أنواع الأعلاف المختلفة بحسب أخر إحصاء أجري عام 2016 ما معدله 100 ألف طن، يغطي إنتاج مصانع الأعلاف الفلسطينية 40 في المئة من هذه الاحتياجات، وتوفر البقية من تل أبيب بأسعار باهظة وفق المزارعين، ويؤكد المركز الوطني الرسمي للمعلومات أن جدار الضم والتوسع الذي بنته إسرائيل عام 2002 التهم 19 في المئة من مساحة المراعي التي كانت تقدر بـ 28 في المئة من مساحة الضفة الغربية، فيما حولت مساحات شاسعة من المراعي المتبقية إلى محميات طبيعية، وأغلقتها أمام الرعاة الفلسطينيين، وفرضت عليهم غرامات وقيود مشددة منعتهم من الوصول إليها.