لا يزال دستور 1982، الذي صِيغ بعد التدخل العسكري في 1980، ساري المفعول في تركيا. لطالما كان تعديل الدستور الحالي أو وضع آخر جديد في السنوات الـ28 الماضية من أهم القضايا المدرجة على جدول الأعمال.
وفي هذه الفترة، عُدلت ثمانون مادة من الدستور المكوّن من 194 مادة في المجموع، بما في ذلك المواد المؤقتة. وعلى الرغم من أن جميع شرائح المجتمع تقريباً غير مرتاحين للدستور الحالي، فإن البرلمان لم يتمكن من تعديل جميع مواد هذا الدستور حتى الآن.
ويعتبر خصوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه الخطوة محاولة لتوظيف عدم الارتياح هذا لصالحه، تمرير استراتيجيات أخرى من وراء هذه الرغبة الجماهيرية. ولذلك يمكن أن نعتبر الوعد بوضع دستور جديد خطوة استراتيجية من الحكومة التي تتوقع أن تلقى ترحيباً في كل من السياسة الداخلية والعلاقات الدولية.
وقد فاجأ الرئيس التركي خصومه بهذا الطرح، بل وأثار القلق لديهم، خصوصاً أنهم يتهمونه بأنه قد أرجع البلاد إلى أجواء ما قبل عام 2003 في جميع المجالات، بخاصة في ما يتعلق بالحقوق والحريات. إذ طرح حزب العدالة والتنمية في 2010 بعض مواد الدستور للاستفتاء، وتمكّن من تغييرها. لكن، هذه التغييرات لم تجلب للشعب سوى مزيد من التدهور والانهيار في كثير من المجالات. وخصوصاً، عندما اختار أردوغان من خلال المراسيم الرئاسية التي أصدرها في عام 2016، الالتفاف من وراء الدستور والقوانين المرعية.
أود أن أتطرق إلى بعض النقاط التي أراها تسهم في إماطة اللثام عن هذه الخطوة المفاجئة.
قام أردوغان بهذه الخطوة استباقاً لطفرات غير متوقعة من شريكه حزب الحركة القومية في السياسة الداخلية. وتلفُّ حالة من الغموض تفاصيل رؤية أردوغان حول الدستور المقترح، وأعتقد أنه يتعمد هذا الأسلوب لحسابات دقيقة وضعها نصب العين.
ولعله بهذه الخطوة يلوّح لشريكه بأنه إذا خذله، وقام بتحركات غير مبرَّرة فلربما يتحالف، بدلاً عنه، مع حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي). وفي حال استمر حزب الحركة القومية في التزام مواصلة التحالف، فقد يُجري حزب العدالة والتنمية استفتاء دستورياً جديداً هذه المرة، لتعزيز نظام الحكم الرئاسي. وبهذا استطاع تذكير شريكه بمدى عجزه عن التخلي عن التحالف، وما يمكن أن يخسره من الفرص إذا تخلى عن الشراكة في السلطة.
لكن، محاولات أردوغان وضع دستور جديد، تصطدم بعقبات أخرى يجب عليه التغلب عليها. فمجموع عدد نواب "حزب العدالة والتنمية" و"حزب الحركة القومية" في البرلمان لا يكفي لإجراء تغيير أو تعديل دستوري. ويحتاج تمرير دستور جديد من خلال البرلمان إلى أصوات ثلثي أعضائه أي 400 عضو، وهو أمر مستحيل على الحزب الحاكم في الوقت الحالي. حيث لا تصل أصوات حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية إلى هذا العدد.
وفي حالة الإخفاق في الحصول على ثلثي الأعضاء فإن أردوغان بحاجة إلى تأييد ثلاثة أخماس الأعضاء أي 360 نائباً على الأقل في البرلمان، حتى يستطيع إحالة التعديل الدستوري إلى الاستفتاء الشعبي، ويكون القرار النهائي، في هذه الحالة، للشعب حول قبول الدستور الجديد أو رده. لكن لا يمكن لأصوات حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية الوصول إلى هذا الرقم (360) أيضاً.
لذلك، أعطى الرئيس التركي الرسالة لجميع الأطراف حتى يفتح باب النقاش حول الدستور الجديد، إضافة إلى رص صفوف مناصريه في الداخل. وتوجد تكهنات في الكواليس حول محاولة أردوغان لجذب رئيسة حزب الخير ميرال أكشنر إلى جانبه، لكن لا توجد هناك إشارات ملموسة تشير إلى إمكانية ذلك على أرض الواقع.
وعلى الرغم من أن التصور حول الدستور الجديد المقترح لم تتبلور بعد إلا أنه من غير المستبعد أن يطمح أردوغان إلى تقوية موقعه مهما كان المسميات في المصطلح السياسي.
يريد الرئيس التركي إعادة هيكلة النظام القضائي والمحاكم العليا، وعلى رأسها المحكمة الدستورية، ومن المواد الأخرى التي يريد تغييرها المواد المتعلقة بالأحزاب السياسية وقوانين الانتخابات وحل الأحزاب السياسية. ومنها كذلك إعادة النظر في القوانين التي تُلزم الحكومة التركية بقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وأخيراً، تغيير القانون الذي يحدد انتخاب الرئيس بفترتين فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما هو واضح فإنه لا يوجد في هذه البنود التي يدور الحديث عنها في الكواليس بند واحد يتعلق بتوسيع الحريات لا من قريب أو بعيد. ومن جانب آخر، وكما قلت في البداية، فإن خطوة الرئيس هذه لها علاقة بالسياسة الخارجية أيضاً، حيث إن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم ينفذا بعدُ قرارات العقوبات التي اتخذاها بشأن تركيا. بالتالي فإن أردوغان يريد كسب الوقت من خلال الوعد بدستور جديد حتى مارس (آذار) وأبريل (نيسان)، حيث ستتبلور الرؤية حول مصير قرارات العقوبات.
يُذكر أن الرئيس التركي لم يتمكّن بعدُ من فتح قنوات الحوار مع فريق إدارة جو بايدن، باستثناء الاتصال الذي أجراه المتحدث باسم أردوغان إبراهيم كالين مع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان. لكنه مجرد حوار شكلي فارغ بالنسبة إلى أردوغان الذي ينتظر، مكالمة هاتفية مباشرة من بايدن.
يبدو أن الرئيس التركي يريد إبقاء الباب مفتوحاً على مناقشات "الدستور الجديد" فترة، ولربما يحاول أن يستشف من خلال ذلك المواقف التي ستتخذها الإدارة الأميركية الجديدة حياله. بخلاف ذلك، فإن أردوغان لن يطمع في الحقيقة في دستور جديد يوسع الحريات، ويضمن الحقوق لأهلها. إن الأمر لا يتطلب نظرة عميقة وفهماً دقيقاً، فالمجرَّب لا يجرَّب.