تتوالى التقارير الدولية التي تؤكد اتجاه الجزائر إلى "الفقر النفطي"، وتتوسع معها المخاوف من مستقبل قاتم في ظل غياب رؤية واضحة لما بعد مرحلة النفط، الأمر الذي خلق ارتباكاً لدى قطبَي البلاد، السلطة والشارع.
ارتباك ومخاوف
وعلى الرغم من أن الحكومة الجزائرية على دراية بما توصل إليه الخبراء من نتائج حول اقتراب موعد نضوب النفط في البلاد، وآخرها تصريحات الوزير المنتدب لدى الوزير الأول (رئيس الحكومة) المكلف بالاستشراف، محمد شريف بلميهوب، بأن "الجزائر ستكون عاجزة عن تصدير برميل واحد من النفط بحلول العام 2035 في حال استمرار وتيرة الاستهلاك الحالية"، وأن "الجزائر بلد غير نفطي، بعكس ما تم الترويج له خلال فترات سابقة"، غير أن تقرير وكالة "بلومبيرغ" الصادر أخيراً، فتح الطريق أمام الخوف للتسرب في أوساط الجزائريين.
وأوضحت "بلومبيرغ" أن "تراجع أسعار النفط يهدد بمعاناة جديدة للدولة العضو في منظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط "أوبك"، وإمكان تكرار التظاهرات التي أطاحت بالرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة"، مشيرة إلى أن "سنوات سوء الإدارة وغياب الاستثمار تركت آثاراً سلبية على الوضع العام للبلاد". وذكرت الوكالة إنه "على الرغم من صعود مؤشر نفط برنت إلى 60 دولاراً للبرميل، إلا أن الجزائر تحتاج إلى سعر أعلى من أجل توازنها".
وتابع التقرير أن "صادرات الجزائر من النفط الخام والغاز الطبيعي المسال تراجع بنسبة 30 في المئة عام 2020، ويتواصل هذا الاتجاه مع انخفاض مبيعات النفط خلال شهر يناير (كانون الثاني) 2021، بنسبة 36 في المئة أقل من شهر ديسمبر (كانون الأول) 2020"، مشدداً على أنه "بسبب الفقر في الإنتاج قد تخسر الجزائر التعافي الأخير في المعدلات، كما سُجل ذات التراجع في قطاع الغاز الطبيعي، في مقابل ارتفاع الاستهلاك الداخلي بسبب زيادة عدد السكان".
الخيار الاستراتيجي
في سياق متصل، رأى أستاذ الاقتصاد عبدالقادر بريش أن "كل التقارير والتوقعات تتجه نحو الاتجاه ذاته بأن الجزائر لم تعد بلداً نفطياً نظراً إلى تراجع حجم المخزون الاحتياطي، وتناقُص الآبار التقليدية في مقابل عدم وجود اكتشافات جديدة، إضافة إلى تراجع الإنتاج اليومي الذي بلغ 850 ألف برميل يومياً، مع تراجع عائدات صادرات المحروقات إلى 23 مليار دولار خلال السنة الماضية"، مضيفاً أن "هذا المستوى من الاحتياطي المتبقي للجزائر من النفط، وبالنظر إلى تزايد الطلب الداخلي، فإنه يسد الحاجات الداخلية فقط، وكل التوقعات تشير الى أن الجزائر بعد عام 2035، ستصبح في حال عجز من حيث الطاقة الأحفورية التقليدية من النفط".
وزاد بريش أن "الرهان حالياً معقود على الانتقال الطاقوي بالاعتماد على الطاقات غير التقليدية وبخاصة المتجددة متعددة المصادر، مثل الطاقة الشمسية". وتابع أنه "ربما نحن متأخرون بعض الشيء، ولكن في اعتقادي أن الاستراتيجية الطاقوية التي حددتها الجزائر في آفاق 2030، تأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات"، مشدداً على أن "التحول أصبح خياراً استراتيجياً، بهدف بناء نموذج جديد من أجل استدامة الرصيد المتاح من النفط والغاز". وقال إنه "لا بُد للجزائر من نموذج اقتصادي جديد وتقليص التبعية للمحروقات"، مبرزاً أن "الجزائر ما بعد النفط ستراهن على العنصر البشري، والاعتماد على القطاعات التي تملك ميزة تنافسية فيها، ومنها قطاعات الفلاحة والمناجم والسياحة وقطاع البتروكيماويات والصناعات الصيدلانية".
خفض الاحتياط الإلزامي
وفي سياق ضغوط الأزمة التي تعانيها البلاد، كشف "البنك المركزي" الجزائري عن خفض الاحتياطي الإلزامي للبنوك من ثلاثة إلى اثنين في المئة، اعتباراً من 15 فبراير (شباط) الحالي، من أجل المساعدة في زيادة مستويات التمويل. وأوضح المركزي في بيان أنه "من المرجح أن يجعل قرار الخفض تحرير هوامش سيولة إضافية للنظام المصرفي أمراً ممكناً"، مضيفاً أنه "سيعزز على نحو أكبر القدرات التمويلية للبنوك بما يتماشى مع سياسية التعافي والتنوع الاقتصادي".
خطوات جريئة ولكن
من جهة أخرى، عبّر المحلل الاقتصادي مراد ملاّح عن اعتقاده بأن "الجزائر تحتاج إلى خطوات جريئة لتنويع طال انتظاره لاقتصادها". وقال إن "المطلوب من الحكومة اليوم هو الاهتمام الحقيقي بقطاعات الفلاحة والصناعة التحويلية، وهما قطاعان أظهرا إمكانات ضخمة بدليل محاولات التصدير، وإن كانت ضعيفة لكنها تستحق الاحترام"، مبرزاً أن "للجزائر خزاناً بشرياً يتقدمه آلاف خريجي الجامعات من الشباب، وهم المكوّن الذي بإمكانه قيادة مشاريع تخفض فواتير الاستيراد".
وتابع ملاّح أنه "من بين الاخفاقات التي يمكن أن تتحول إلى بدائل حقيقية للاقتصاد الجزائري استغلال المساحة الضخمة للبلد لاحتضان مناطق صناعية تخدم دول الجوار، إذ هناك فرصة ذهبية مع دخول السوق الأفريقية الحرة حيّز النشاط. هذه كلها بدائل اقتصادية تدعم تطور قطاعات النقل واللوجستيك وغيرها، لكن لا بد من التذكير دوماً بأن المنظومة المصرفية وعدم استقرار قوانين الاستثمار وبيروقراطية الإدارة ستظل عائقاً حقيقياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مخاوف اجتماعية
في الموازاة، بات هاجس الأزمة المالية المتزايد يؤرق السلطات الجزائرية، بخاصة أن مطالب الشارع تتصاعد يوماً بعد يوم، ففي حين وجدت الحكومة "مهدئات" لمواجهة شعارات التغيير وتوسيع الحريات والديمقراطية من خلال تعديل الدستور وقانون الانتخابات والتحضير للاستحقاقات البرلمانية والمحلية المبكرة، تبقى الانشغالات الاجتماعية التي تزداد اتساعاً عقبة يصعب على السلطة تجاوزها، نظراً إلى الأزمة المالية التي تدفع إلى وقف سياسة الدعم في ظل حصر فاتورة الاستيراد، وهو الأمر الذي يزيد الاحتقان ويهدد بانفجار الشارع.
أوروبا تضغط
وزاد المخاوف تقرير لمفوضية الاتحاد الأوروبي، أبرز أن أوروبا ستتخلى تدريجاً عن الغاز الجزائري اعتباراً من العام 2030. وذكر تقرير حول "الصفقة الأوروبية الخضراء"، صدر في 4 فبراير الحالي، أن "الجزائر ستمثل اختباراً حقيقياً للسياسة الأوروبية في ما يتعلق بتطبيق الصفقة الأوروبية الخضراء، نظر إلى كونها ثالث أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى أوروبا بعد روسيا والنرويج، ومعظم الصادرات الجزائرية والبنى التحتية للطاقة موجهة للتصدير نحو السوق الأوروبية".
وشدد التقرير على أن الجزائر لا تملك أسواقاً بديلة واعدة لبيع مواردها الطاقوية لتعويض سوق القارة الأوروبية، كما لا تلوح في الأفق أية منتجات بديلة للتصدير بشكل كاف.
سياسات اقتصادية متينة بديلة
في الشأن ذاته، اعتبر أستاذ الاقتصاد الزراعي لطفي غرناوط أن "اعتماد الجزائر على المحروقات كمورد وحيد في اقتصادها، وتأخر التنفيذ الميداني لكل السياسات المتعاقبة لتنويع المداخيل، يعرضنا اليوم وبشكل أكبر لأخطار أزمة اقتصادية حادة"، مضيفاً أن "الآثار السلبية الاقتصادية للأزمة الصحية ظهرت وستستمر من دون شك فترة أطول، بخاصة مع ارتفاع الإنفاق العام لمواجهتها، وبالتالي لا يجب على الجزائر الاعتماد على المحروقات بذات القدر السابق، ولا يمكن انتظار تحسن أسعار النفط لبضع سنوات على الأقل، بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي وانخفاض الطلب". ورأى "أننا اليوم أمام فرصة وضع سياسات اقتصادية متينة بديلة تعتمد على المقاربات العصرية للإصلاح الاقتصادي وتحيّن للأولويات".
ولفت غرناوط إلى أن "الحلول العاجلة تكمن في توجيه استراتيجية الإصلاح الاقتصادي بشكل كبير نحو القطاعات المؤهلة ذات الإمكانات، والتي تسمح برفع نسبة نمو الناتج الداخلي الخام، مثل الفلاحة والصناعات التحويلية، مع تهيئة البنى التحتية الضرورية وتوفير العنصر البشري عالي التكوين، إذ يُعدان عاملان أساسيان في استقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال الخارجية، ويشكلان ما يبحث عنه أي مستثمر أجنبي"، مشيراً الى أنه "لا يجب على الدولة التردد في استنساخ بعض ما يلائمها من التجارب الاقتصادية للدول المتقدمة، كما عليها فتح الأبواب أمام كفاءاتها المغتربة لتقديم الإضافة، لأنها الفرصة المناسبة للمرور إلى نموذج جديد في الإصلاح والحوكمة الاقتصادية".