لا شك فى أن جوهر الشعر واحد، سواء كان مكتوباً بالشكل الخليلي الموروث أو اتخذ شكل القصيدة التفعيلية، أو كان على صورة "قصيدة النثر"، ويظل ذلك الجوهر هو أساس الشاعرية، بغض النظر عن كون القصيدة مكتوبة بالفصحى أو العامية. وهذا ما يثبته الشاعر المصري طارق هاشم في ديوانه "اختراع هوميروس" (أقلام عربية)، فبعد رحلة طويلة مع قصيدة العامية كان فيها صاحب صوت متميز ينتقل فجأة إلى شعر الفصحى في ديوانه المشار إليه، معلناً انتماءه (كما كان في العامية) إلى قصيدة النثر، وتخليه عن الغناء القديم الذي قد يحتاج إليه أحياناً، لكي تطمئن حبيبته التي تراه مختلفاً عن شعراء قصيدة النثر.
هذه الحبيبة تنعى إصرار الشاعر على التخلي عن أصله وهو (كما يقول)، لا يصر ولا يريد، لأنه فقط "محاصر ما بين عينيها الطيبتين". والحقيقة أن تيمات الشاعر الموضوعية تؤكد أنه منتم إلى مكانه وناسه المهمشين، وهو ما جعله معتمداً بدرجة كبيرة على البنية السردية حين يسوق حكايات جماعته البشرية، ويظهر ذلك في اختياره لشخصية "عابدين" الذى ينام وحيداً مع حزنه، "على سرير كان قد صنعه من حجارة الشوارع".
ويذكر الشاعر أسماء بعض هذه الشوارع في وسط القاهرة، ما يؤكد واقعية الشخصية التي يخلع عليها كثيراً من الصفات الإيجابية، فقد كان "عابدين" سمساراً، لكنه "يكره السماسرة وأغنياء الحرب"، وكان "دليلاً لمن ضلوا في هذه المدينة الغامضة"، وكان "طيباً ومحبوباً من أطفال الشوارع"، لكن كل هذا يتبدل فيصبح الحاضر على نقيض الماضي، حيث غابت الطيور التي كان يطعمها وراء الشمس.
حالة شبحية
وسوف تتكرر تيمة الحرب التي بدلت حاله في قصائد أخرى، هذه الحرب التي جعلته لا يرى سوى الأشباح، ومن المعروف أن دال "الشبح" يقع فى المنطقة البرزخية بين الواقع والخيال، وهو لذلك أكثر تأثيراً، "وحدتي خرجت من حيز التخيل لتقفز في الواقع/ كشبح لا يهزمه حتى الأعداء". هذه الوحدة الشبحية تجعل الشاعر عاجزاً عن الحركة وتصبح الأنثى الملاذ الوحيد فهو من دونها "دون يد/ دون ذراع تحفظ الريح فتردها عن ظهرك حين يحل الشتاء".
ويتكرر دال الشبح في قوله "في المرآة رجل لا أعرفه/ لا تربطني به أي رابطة إنسانية/ فقط هناك شبح/ أطل برأسه على مدينة قاحلة". ومن الواضح أن الصفات التى يخلعها الشاعر على المدينة تتجاوب مع هذه الحالة الشبحية فهي مدينة غامضة قاحلة نائية عن الأفراح، ويتحول ساكنوها الذين يرمز لهم بالرياح إلى قوة تدميرية تهاجم بيوت الودعاء، ما يعني أننا أمام صراع غير متكافئ يقترب من التراجيديا.
وفي قصيدة "موتنا القادم" يصبح الآخرون أكثر مباشرة فهم يستكثرون على الطيبين تخيل جنة بسيطة بنوها من حجارة وقش، إنهم يحاربون خيال الشاعر وتحليقه الذي يجعله قريباً من الطائر الذي يعبر السماوات تاركاً العناوين التي أربكته بحثاً عن طيف حبيبته.
هذه الصورة الوحشية للآخرين تجعل الشعر قريباً من كتابة المآسي باعتبار الحياة نفسها مأساة كبيرة، "تسألني رفيقتي/ لماذا لا تكتب إلا عن المآسي/ فأقول لها/ إن الحياة مأساة كبيرة".
تراجيديات وملاحم
من هنا تحضر تراجيديات شكسبير وملاحم هوميروس الذي يعد الشاعر نفسه امتداداً لهما، حتى لكأن هوميروس قد اخترعه في الإلياذة من دون أن يحدد له دوراً، كما يحضر نيتشه بدعوته إلى تمجيد القوة في مقابل جاك بريفير بإنسانيته المفرطة، "نيتشه لم يسقط/ ما زال معلقاً بأطراف البرواز/ وما زال جاك فى دائرة التقمص.../ نعم هو جاك بريفير/ بشحمه ولحمه وإنسانيته المفرطة".
لقد تقمص الشاعر شخصيات متخيلة كثيرة أو شخصيات "ورقية" بتعبيرات جيرار جينيت، ولعل هذا ما أفقده ملامحه الثابتة. إنه يتحول مع كل قراءة يرى نفسه فيها، "أحبك/ هل تصدقين رجلاً بلا ملامح/ رجلاً هدّه الرحيل من شاطئ إلى آخر/ من مرمى النار إلى مرمى الحجارة".
وامتداداً لعجز الشاعر الذي أشرنا إليه، نراه يختار النماذج التي تتماهى مع عجزه عن المواجهة، كما في قصيدة "من على كرسيّ متحرك"، عندما يتحدث عن رجل فقد ساقيه فى الحرب الأخيرة ما جعله عاجزاً عن نزول الشارع حتى يلتقط خطاب عاشقة كانت لا ترى فيه "سوى عينين شاردتين/ ظنتهما نجمتين ترقبان النوارس المهاجرة إلى اللاشيء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن فاعلية الإنسان لا تتحقق إلا بدوره فى الحياة تتحول البطالة إلى نوع من الموت، لهذا تناشد الزوجة الله أن يعيد إليها زوجها الذي خرج بحثاً عن عمل ولم يرجع. ومع ذلك فليست كل الأعمال محققة لإنسانية الإنسان فقد تكون لمجرد قتل الملل، "بالدُمى التي صنعتها يداك/ أخرج مهزوماً إلى البحر/ أبيعها للمصطافين لقاء جنيهات/ لكنها قلما أضاعت مرارة يومنا". ويصف نفسه بأنه "بائع للوهم"، وأن زوجته قد صنعت هذه الدمى "كي تقتل الملل".
في وجه العالم
تصل حالة الشعور بالملل والعجز إلى أقصاها فى قصيدة "في وجه العالم" التي يعلن فيها الشاعر مغادرة أرواحنا التي سكنت دماءنا إلى آدميين آخرين بعد أن أدماها العجز، "حين حاولت أن تعلن موقفاً حقيقياً في وجه العالم".
هذه الحالة التي بلغت أقصاها تجعل الشاعر حزيناً أو منتظراً للحزن الذي يأخذ صورة تشخيصية في قصيدة "في النوبة المؤجلة"، حين يقول، "كن مؤهلاً للحزن/ هو أيضاً ينتظرك/ في كل ليلة ينصب خيمته أمام البيت/ ويعرف مواعيد دخولك في النوبة المؤجلة".
هذه الصورة التشخيصية التي يتخذها الحزن، يحيلها الشاعر على كثير من عناصر الطبيعة حين يصف في قصيدة "الراحلون إلى الشاطئ" البحيرة بأنها نائمة تستيقظ ليلاً لتتفاوض مع الرياح وتغازل الموج حتى لا يقسو على الراحلين، وأنها أحبت بحاراً صار غريباً في بحار أخرى، لكنه "مازال رهين محبتها"، وهو أيضاً ما يخلعه على الغابة التي تحب وتسافر وتعرف رعشة محبيها، وهكذا تتحول من مكان مرتبط بالغموض والخوف إلى راعية للطيبين وحارسة لهم من "الباحثين عن الذهب" بجشعهم ودمويتهم. وأخيراً فإن الشاعر قد اعتمد (كثيراً) على الأبيجراما بكثافتها وتعدد دلالاتها الفنية.