بين العامين 1974 و1975، وكان إنغمار برغمان قد انتهى من تحقيق واحد من أصعب أفلامه حتى ذلك الحين وبات في حاجة إلى الراحة، إنما من دون أن يدري أن السنوات التالية خلال النصف الثاني من السبعينيات ستكون أكثر صعوبة عليه، ولكن ليس لأسباب سينمائية إبداعية مباشرة، ولكن لأسباب إدارية ضرائبية، وحقق على التوالي فيلمين يحملان من التناقض في ما بينهما قدراً مدهشاً، لكنهما يلتقيان معاً، وكل على طريقته مع الطرفين الأقصيين من المواضيع والأساليب التي ميّزت دائماً سينماه. فهو لئن كان أول الأمر في حاجة إلى شيء من الراحة النفسية بعد أن استهلكته ساعات الحلقات التلفزيونية الطويلة التي صور عبرها النسخة الأطول من "مشاهد من الحياة الزوجية"، ها هو يحقق أول الأمر فيلماً قد يكون صعباً من الناحية التقنية لكنه بالتأكيد سيكون برداً وسلاماً عليه: "الناي المسحور" في اقتباس مباشر عن "مسرحية موتسارت" الشهيرة، أما الفيلم الثاني الذي نشير إليه بالنسبة إلى تلك المرحلة فكان "وجهاً لوجه"، الذي ربما سيكون الجهد المطلوب من الناحية الإنتاجية والتقنية أقل كثيراً مما كان مطلوباً لـ"الناي المسحور"، لكن الفيلم سيكون متعباً نفسياً لبرغمان حتى ولو أنه لم يضطر فيه إلى أي تجديد، فهنا، مرة جديدة، ها هو أمام ذلك الموضوع الأثير لديه: موضوع المجابهة.
العين على نجمتين
ونعرف أن هذا الموضوع شغل دائماً أفلاماً أساسية لبرغمان من دون أن تعني المجابهة وجود شخصين وجهاً لوجه، هذان الشخصان نجدهما طبعاً على شكل أختين في "الصمت" تحاول كل منهما أن تدمّر الأخرى خلال مرورهما في مدينة غريبة، ونجدهما امرأتين في "برسونا" ينتهي بهما الأمر إلى الاندماج في "امرأة واحدة". وقد نجد مواجهة في مناطق معزولة بين رجل وامرأة في أفلام "ثلاثية الجزر"، بل إن المواجهة سوف تصل إلى ذروتها حين ستتحول بعد حين لتصبح بين أم وابنتها في فيلم مقبل هو "سوناتا الخريف" الذي سيحققه انطلاقاً من رغبته في مشاهدة ليف أولمان وإنغريد برغمان في مجابهة إحداهنّ الأخرى، غير أن علينا أن ننتظر هنا بعض الوقت قبل أن نستمتع بأداء إنغريد وليف المدهش تحت إدارة إنغمار الذي لئن كان معتاداً على عمل ليف أولمان معه، فإن إدارته لسميّته إنغريد برغمان ستكون شيئاً جديداً في سجله الإبداعي. ولننتظر على أية حال.
المجابهة الدائمة
وفي الانتظار، يمكن لمثل لائحة المواجهات هذه أن تطول، إذ إن موضوعية المواجهة نادراً ما تغيب عن السينما البرغماتية، بيد أن الجديد، القديم، هنا في الفيلم الذي سيكون من آخر ما يحققه في السويد قبل منفاه الاختياري، أن برغمان وتحديداً في الفيلم الذي أعطاه العنوان الأكثر فصاحة في هذا السياق والذي يبدو الأكثر مباشرة، "وجهاً لوجه"، سيبدو مخادعاً أكثر مما كان في أي فيلم آخر من أفلام هذا السياق، لأن طرفي هذه "المواجهة" ليسا امرأتين ولا امرأة ورجل. بل امرأة واحدة تجابه نفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العودة إلى الرفاق
في "وجهاً لوجه" يستعيد برغمان تعاونه على الأقل مع ثلاثة ممثلين رئيسيين من الذين يكونون عادة "عائلته" الفنية، وذلك بعدما كان لا بدّ له في الفيلم الأوبرالي السابق، أن يلجأ إلى فناني أوبرا. وهكذا نجدنا هنا مرة جديدة مع ليف أولمان وإيرلند جوزفسون وغونيل بيورنستراد يتحركون أمام كاميرا سفن نكفست، في عمل انطلق أصلاً من رسالة بعث بها المخرج الذي كتب السيناريو بنفسه، إلى فريقي العاملين معه، الفريق الفني والفريق التقني يقول لهم فيها، "إننا نتهيأ لتصوير فيلم يتحدث بطريقة ما عن محاولة انتحار. لكنه في الحقيقة فيلم يتحدث عن الحياة وعن الحب إضافة إلى حديثه عن الموت. وعن الانشغال بالموت والتفكير فيه وحمل همّه. ثم عن الشعور بالسعادة وما إلى ذلك".
ولقد أرخ برغمان رسالته يوم السابع من ديسمبر (كانون الأول)، بيد أن الأهم من هذا، وكما سوف يتبين لاحقاً، أن الفيلم سيطلع من بين يديه نوعاً من الترياق الشخصي، نوعاً من علاج له هو الذي كان يشعر بقدر كبير من القلق في ذلك الحين، لكنه كان قلقاً لا يدرك في البداية مصدراً له.
المبدع متجسّداً في بطلته
عبّر برغمان في هذا الفيلم عن معاناته، ومرة جديدة من خلال امرأة جعلها أناه الآخر، وهي جيني إيزاكسون (ليف أولمان طبعاً) التي تطالعنا في البداية امرأة نالت من الحياة كل ما تتمنى، وتمارس مهنة التحليل النفسي. وها هي اليوم تجد نفسها وحيدة، إذ يقوم زوجها بجولة يحاضر فيها في مدن عدة، بينما توجهت ابنتها إلى مخيم صيفي. وجيني تجد نفسها الآن مضطرة للمكوث في بيت أهلها في انتظار إنجاز بعض التصليحات في شقتها، ثم ذات لحظة، تجد نفسها مضطربة من جراء محاولة اغتصاب ما يوصلها مع إحساسها بقرب الشيخوخة إلى انهيار عصبي تُنقل على إثره إلى المستشفى بعد أن تحاول الانتحار بتجرّع كمية من الحبوب المهدئة، وهناك محاطة بكل أنواع الخيالات والشياطين التي كانت قد غابت عنها منذ صباها، يحدث أن تظهر لها واحدة من مريضاتها تتهمها بعدم الكفاءة وبأنها قد دمرت حياتها.
أمام هذا كله، تحس جيني أنها باتت عاجزة عن حل كل التناقضات التي تحيط بها وأنها إنما أخفت هذا العجز عن نفسها وعن محيطها دائماً تحت القناع البراق لنجاحها المهني والعائلي، في المستشفى، يخيّل أول الأمر لجيني أنها وجدت الخلاص في صحبة زميل لها هو الدكتور جاكوبي، لكن هذا مضطر هو الآخر لمجابهة شياطينه وإخفاق حياته الزوجية، وها هو يزمع السفر بعيداً، كذلك حين يعود زوج جيني سيعلن أنه بصدد جولة أخرى في وقت تجابه الابنة جيني متهمة إياها بأنها لم تحبها أبداً.
جيني تتجاوز ذاتها
مهما يكن، لن ينتهي الفيلم إلا بجيني وقد عرفت كيف تتجاوز معاناتها، وحدها من دون معونة من أحد وتنتهي بها الأمور إلى الابتسام، وهي تراقب الهدوء الذي تشعر أن والديها ينتظران به موتهما متقبلين شيخوختهما الهادئة.
واضح أن ما يصوره لنا برغمان هنا إنما هو المصالحة مع الذات بعدما صوّر طوال النصف الأول من الفيلم مجابهة جيني مع ذاتها، بالتالي واضح هنا أيضاً أن برغمان يقدم ما كان يمكن اعتباره حتى ذلك الحين أكثر أفلامه ذاتية، ولم يكن صدفة أن يتخذ من امرأة قناعاً لشخصيته في تلك المرحلة المتقدمة من حياته ومن مساره المهني، والحقيقة أن الذين شاهدوا الفيلم بعد إنجازه، بخاصة منهم أولئك الذين كانوا تلقوا رسالته المذكورة وشعروا بشيء من الحيرة تجاهها، فهموا أخيراً مغزاها وحلّوا تناقضاتها.
وهم أنفسهم سوف يعودون، بعد سنوات لا بأس بطولها إلى تعبير برغمان عن ذاته سينمائيّاً، ولكن خلف قناع رجل هذه المرة في واحد من أفلامه الأخيرة بل فلنقل من دون تردد في واحد من تحفه الأخيرة، "بعد التمرين" الذي يمكننا القول إنه سيكون وصيته الفنية، وحتى الإنسانية الأخيرة.
لكن الوقت كان لا يزال هنا مبكراً، وكان لا تزال أمام المبدع السويدي الكبير، سنوات عدة وضروب معاناة بل حتى منفى مدهش قبل أن يختم مساره بتلك "الوصية"، التي لن تكون فيلمه الأخير على أية حال، وهو بالتحديد ذلك المنفى الذي قصده، وهو في تلك السنّ المتقدمة بعد أن اشتدت عليه ضغوطات مصلحة الضرائب في بلاده ما شكّل صدمة للأوروبيين جميعاً فاستقبلوه أحسن استقبال ومكّنوه من تحقيق بضعة أفلام أخرى قبل أن يموت.