تقرأ السيرة الذاتية "بريد ذكريات" لإيما رييس بما تحويه من جماليات في السرد، وتعددية في الأصوات، وقدرة على رسم الشخصيات بشكل احترافي، لكنك لا تجد إلا معلومات ضئيلة بالعربية حول كاتبتها تنحصر في أنها "كاتبة ورسامة، ولدت في 1919 في بوغوتا بكولومبيا، وتوفيت في 12 يوليو (تموز) 2003 في بوردو بفرنسا"، من دون وجود أي تفاصيل تعرف القارئ العربي بما قدمته رييس للفن والأدب وجعلها تحظى بشهرة واسعة في الغرب.
في ترجمة المصري مارك جمال لتلك السيرة من الإسبانية إلى العربية (دار التنوير) نجد فحسب فترة طفولة إيما رييس وشيئاً يسيراً من مراهقتها. فالسيرة جاءت في 23 رسالة بعثت بها رييس في فترات متفرقة إلى الناقد والمؤرخ الكولومبي خيرمان سينييغاس. أولى هذه الرسائل كانت في 28 أبريل (نيسان) 1969م، ثم توالت حتى عام 1972 لتبلغ 18 رسالة. ثم توقفت رييس تماماً عن مراسلة سيينغاس لمدة عشرين عاماً، وعادت عام 1997م بخمس رسائل فحسب تفتقد الحماسة والقوة والعفوية والمصارحة التي كانت عليها الرسائل الأولى.
وربما يرجع ذلك إلى ما فعله سيينغاس حين أطلع الراوئي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز على هذه الرسائل في بداية السبعينيات، فقرأها بإعجاب شديد، ما دفعه لإجراء اتصال مع مواطنته التي كانت تعيش حينذاك في باريس ليعبر لها عن مدى افتتانه بما كتبت، مطالباً إياها بنشره، فغضبت من صديقها الذي تعرفت عليه في أربعينيات القرن الماضي؛ لأنه سمح لغيره بالاطلاع على رسائلها إليه. في النهاية تمكن سيينغاس من إقناعها بالسماح له بنشر رسائلها فوافقت بشرط أن تنشر بعد وفاتها، ورصدت عائد الكتاب لدار أيتام في كولومبيا.
الكتاب نشر للمرة الأولى عام 2012، أي بعد وفاة سيينغاس "1900-1999" بنحو 13 عاماً، ووفاة رييس بـ9 سنوات.
فن الرسم
يعد كثير من النقاد أن إيما رييس عرابة لفن قارة أميركا اللاتنية، حيث جسدت معاناتها في لوحات تتمتع بألوان مبهجة؛ ترتبط بالنباتات والحيوانات. لم تحمل لوحاتها أسماء، وجرت تسميتها في ما بعد بما تضمنته. وعبرت تلك اللوحات عن طفولة صعبة عاشتها في كولومبيا، وقد ذكرت أصول بعضها في سيرتها الذاتية "بريد الذكريات"، مثل لوحة "التمثال المصنوع من القمامة" التي تحيل إلى واحدة من قصص طفولتها عندما كان عمرها أقل من خمسة أعوام، حيث اعتادت اللعب في القمامة مع أطفال الحي. ولأنها صغيرة كان هؤلاء الأطفال لا يشركونها في اللعب معهم، باستثناء ولد يكبرها بأعوام كانت تسببت عجلات القطار في أن يفقد إحدى قدميه، حين كان يحاول أن يحول أغطية زجاجات المشروبات الغازية إلى ما يشبه النقود.
واللوحة الثانية "حريق القرية" مقتبسة من مشهد في طفولتها أيضاً؛ حين زار المحافظ قريتها، وجرى الترحيب به بألعاب نارية تسببت في حرق مستشفى ومرضاه الخمسين. كانت الطفلة تظن وقتها أن الحريق جزء من الألعاب النارية.
حياة قاسية
حظيت رييس بمكانة كبيرة بعد نشر سيرتها الذاتية، وذاع صيتها بوصفها كاتبة أكثر من كونها رسامة، لما تتمتع به تلك السيرة من مواطن إنسانية عبرت عن طبيعة الحياة في كولومبيا. فقد ولدت في غرفة ضيقة لا نوافذ لها، وعاشت فيها مع أخت تكبرها بعام ونصف العام؛ "إيلينا"، وطفل يصغرها يدعونه "القملة"، واسمه "إدواردو"، وامرأة تدعى "ماريا" رجحت أنها يمكن أن تكون أمها. كانت تلك السيدة تعاملهم بقسوة. كانت تغلق الباب عليهم من الخارج، وتعود متأخرة، ونادراً ما تحن عليهم، وذات يوم أعطت "إدواردو" لشخص زعمت أنه والده، وحين أنجبت طفلاً آخر تركته أمام باب أحد البيوت. وفي أحد تنقلاتها تركت "إيما وإيلينا" في محطة قطار، فتم إيداعهما في أحد الأديرة. عوملت هناك رفقة أختها بقسوة شديدة حتى تمكنت من الهرب من الدير، وهي بعمر 18 عاماً.
وتتوقف سيرة إيما "بريد الذكريات" عند هروبها من الدير. وبعد هذا الهروب طافت على قدميها دول أميركا اللاتنية حتى وصلت إلى الأرجنتين، وهناك بدأت رحلتها مع الرسم. وفي الرابعة والعشرين من عمرها، حصلت على منحة دولية للدراسة في باريس، ولأنها لم تكن تمتلك ثمن تذكرة السفر عرضت أن تزين جدران السفينة بالرسوم مقابل نقلها. وفي فرنسا أصبحت ذائعة الصيت بوصفها فنانة تشكيلية، وكانت على اتصال بكثير من النخبة المثقفة الذين أعجبوا بالقصص التي تسردها عن حياتها الأولى، ومنهم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، والكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا.
سيرة الفقد
عاشت إيما رييس حياة غير مستقرة، لكنها تميزت بذاكرة مدهشة تجاه تفاصيل حياتها منذ أن كانت في الخامسة من عمرها، وفسرت ذلك في إحدى رسائلها بقولها: "قد تعجب لقدرتي على سرد تفاصيل الحوادث التي جرت في تلك الحقبة البعيدة كل البعد، بهذا القدر من الدقة، وأوافقك في ما ذهبت إليه، ذلك أن طفلاً في الخامسة من العمر لن يتذكر طفولته لاحقاً بمثل هذا الوضوح، ما دام قد عاش حياة طبيعية، أما أنا وإيلينا فنذكر طفولتنا وكأنها كانت اليوم، وليس في وسعي أن أشرح لك السبب، لم تغب عنا تفصيلة واحدة لا اللفتات ولا الكلمات ولا الألوان، بل يبدو لنا كل شيء جلياً".
أول حادثة فقد شهدتها طفولتها كانت لمن يعتقد أنه أخوها "إدواردو". بكت على رحيله كثيراً. رحل رفقة رجل أنيق عرفت في ما بعد أنه أحد محافظي ولايات كولومبيا. لم تلتقِ هذا الطفل مرة أخرى في حياتها.
الفقد الثاني كان لذلك الطفل الرضيع الذي أنجبته ماريا. كان اللعبة التي تتسلى بها إيما، حيث كانا يتركان وحدهما في المنزل وهي في عمر الخامسة. كانت هي من تعتني به، ووجدت به خير بديل عن اللعب مع الدجاجات وخنزير صغير، لكن أمها تركت هذا الطفل أمام بيت "والده" ليلاً، وغادرت القرية التي تبعد عن العاصمة الكولومبية أكثر 150 كيلو متراً.
الفقد الثالث تمثل في الخادمة "بتسابيه" التي ارتبطت بها الطفلة "إيما"، لكنها هربت لأنها لم ترغب في العيش في العاصمة، ورغبت في العودة للقرية التي جاءت منها. أما الفقد الرابع فهو لـ"ماريا"، الأم التي تخلت عن طفلتيها، إحداهما في الخامسة، والأخرى في السادسة، فقد كانت تحملهما أسباب شقائها، وأقسمت أمامهما أنهما ستتركهما يوماً. والفقد التالي كان للراهبة الوحيدة التي كانت تحن عليها في الدير. أما الفقد الذي لم تذكره في السيرة فهو مقتل طفلها عندما اقتحمت مجموعة مسلحة منزلها.
دير أشبه بالسجن
لا تبدو "إيما" في سيرتها الذاتية ناقمة على فترة طفولتها الصعبة بقدر نقمتها على الفترة التي عاشتها في الدير باعتبارها "حياة غير آدمية". كان في الدير أكثر من 150 طفلاً يكبرون إيما وأختها، بالتالي لم تسلما من التنمر وخصوصاً هي بما أنها لم تكن تحظى بوجه جميل مثل أختها، كما أنها مصابة بالحول، وفي هذا الدير الذي هو أشبه بالسجن لا يوجد سوى 5 حمامات فقط لكل هذا العدد يفتح في الصباح لنصف ساعة فقط. عاشت إيما حياة عسكرية منعت فيها من التعامل مع العالم الخارجي. كان العمل يستمر يومياً في التطريز لأكثر من 10 ساعات، وتصل في أيام إلى 18 ساعة. أثناء العمل غير مسموح بأي أحاديث جانبية، وعلى الرغم مما يدره التطريز من مال لم يكن الدير يمنح الأطفال أي أموال. العمل فحسب مقابل أكلهم مع معاملة في غاية الشدة والقسوة. في الدير تعرضت إيما للتحرش الجنسي من قبل كاهن، ورأت الطبقية في أسوأ أنواعها، فهناك طبقة أرستقراطية من الراهبات ذوات الأصول الغنية والعريقة، وأخريات لا يختلف وضعهن عن وضع الفتيات اللاتي يتم استغلالهن في جميع أنواع العمل من مسح المراحيض والغسل والكنس والطبخ....
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تنسى إيما التعذيب النفسي الذي تعرضت في الدير. قصص عن الشيطان مرعبة لا تنتهي. تحدثوا عنه وعن الإثم والنار والخطيئة أكثر مما تحدثوا عن الله والملائكة. ولم تحظَ إيما بأي قسط من تعلم القراءة والكتابة داخل الدير، لكنها برعت في رسم أوتطريز الملابس.
وفي الأخير، فإن السيرة تمتلئ بالصور والمشاهد الإنسانية التي تنم عن حكاءة ذات قدر كبير من البراعة في السرد، حكايات عن معاناة الإنسان وسط ظروف في غاية القسوة، عن فتاتين صغيرتين تركتا وسط عالم متوحش إلا أنهما في النهاية استطاعتا النجاة وخلق حياة أفضل.