ظل السودان، من حين لآخر، يدين ويستنكر ما يسميه العدوان الإثيوبي على أراضيه، بدخول قوات إثيوبية مناطق تتبع له قانوناً، في وقت تشهد الحدود بين البلدين حال توتر منذ إعلان القوات المسلحة السودانية في ديسمبر (كانون الأول) 2020 سيطرتها على منطقة الفشقة التي تحتلها مجموعات من السكان الإثيوبيين بحماية ميليشيات إثيوبية تسمى "الشفتة" لأكثر من ثلاثة عقود، ما اعتبرته إثيوبيا تعدياً على حدودها، واستغلالاً من الجانب السوداني لظروف حربها في إقليم "تيغراي" التي اندلعت مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
وأصدرت وزارة الخارجية السودانية، السبت 13 فبراير (شباط)، الحالي، بياناً يدين إثيوبيا لانتهاكها سيادة السودان بدخول قواتها أراضيه، مشيراً إلى أن الاعتداء على الأراضي السودانية يعد تصعيداً يؤسف له ولا يمكن قبوله، ومن شأنه أن تكون له انعكاسات خطيرة على الأمن والاستقرار في المنطقة.
وأضاف البيان "السودان يحمل إثيوبيا المسؤولية كاملة عما سيؤدي إليه عدوانها من تبعات، واتساقاً مع خياراته، فإنه يطلب الكف فوراً عن تعديها على أراضيه، وأن تعدل إلى الحوار وتحرص على إكمال إعادة تخطيط الحدود المتفق عليها ووضع العلامات الدالة عليها".
فما دلالات ومؤشرات هذه الاتهامات المتبادلة بين الجانبين السوداني والإثيوبي، وما ستفضي إليه من أحداث في الأيام المقبلة؟
حرب استنزاف
يوضح الناطق الرسمي السابق للقوات المسلحة السودانية فريق أول معاش محمد بشير، أن "ما يجري في الحدود السودانية - الإثيوبية ليس بالحرب الواضحة والمنفذة على أرض الواقع، بل هي حرب استنزاف لقدرات السودان العسكرية والاقتصادية، فالإثيوبيون يريدون من تكرار هجماتهم على الأراضي السودانية أن يوصلوا رسالة للجانب السوداني بأنهم لا يعترفون بالاتفاقيات الدولية الخاصة بالحدود، من منطلق أن استيلاء السودان على أراضيه في المناطق الحدودية التي كانت تسيطر عليها مجموعات إثيوبية، أثرت على الأمن الغذائي في إثيوبيا، وعلى المواطن الإثيوبي، بالتالي ستظل حرب استنزاف، ولن يتوقف العدوان المتكرر على تلك المناطق".
أضاف بشير "يجب على السودان حسم أمره بأن يكون على قدر التحدي بتحرير أراضيه كاملة من منطلق السيادة، لكن هناك تقاطعات في اتخاذ قرار الحرب، فهو يحتاج إلى جبهة داخلية موحدة ومتماسكة، وقدرات اقتصادية هائلة، وهذا غير موجود في البلاد، فضلاً عن تسخير قوة الدولة بأكملها سياسياً واقتصادياً للدفاع عن الوطن، كما أن البعد الخارجي غير مهيأ لأي حال من حالات الحروب في المنطقة، خصوصاً أميركا، فهي تعيش في حالها الجديدة، وتسخر جهودها لمكافحة وباء كورونا، وترتيب علاقاتها الدولية، بمعنى أن البيئة الدولية غير مهيأة. أما من ناحية إثيوبيا، فهي تعاني أيضاً تفكك جبهتها الداخلية، وتدهور أوضاعها الاقتصادية، إلى جانب عدم إيجابية البيئة الدولية معها، بالتالي فإن ما تقوم به من هجوم متكرر على الحدود السودانية هو أفضل خياراتها للرد على السودان بعد احتلاله منطقة الفشقة التي كانت في يد المزارعين الإثيوبيين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع الناطق الرسمي السابق للقوات المسلحة السودانية "في نظري أن السيناريو الإثيوبي لن يتوقف، فأديس أبابا تريد أن تؤكد رفضها اتفاقية 1902 التي تثبت أحقية السودان بمنطقة الفشقة، محل الخلاف الحدودي بين الجانبين، بالتالي تبين أن السودان هو الذي اعتدى على أراضيها، من أجل تحقيق كسب شعبي خصوصاً في حال طرد السودان المستوطنين الإثيوبيين، لكن المسألة تحتاج إلى إيجاد فكر واستراتيجية حتى يتحقق الهدف المطلوب". وأبدى بشير عدم تفاؤله بوساطة جنوب السودان لحل هذا الخلاف الحدودي، إذ تعاني صراعاً داخلياً مسلحاً، كما أن الدولة التي تقوم بوساطة، يجب أن تكون لها القدرة على تنفيذ ما اتفق عليه من بنود، وهو دور ليس بمقدور جنوب السودان القيام به.
أزمة داخلية
في السياق ذاته، يقول المتخصص في إدارة الأزمات والتفاوض اللواء أمين إسماعيل مجذوب "تعاني إثيوبيا أزمة داخلية تتمثل في الحرب في إقليم تيغراي، إلى جانب الصراعات الإثنية المختلفة، كما حاولت القيادة الإثيوبية استثمار منطقة الفشقة السودانية المتنازع عليها من أجل إدارة الأزمة بالأزمة لشغل المواطنين، فنحن الآن في المرحلة الثانية من تصرفات الجانب الإثيوبي التي تهدف إلى جس النبض لمعرفة رد فعل الجانب السوداني ومقدراته، وتمثلت المرحلة الأولى في التصريحات والتهديدات التي أطلقها الإثيوبيون بعدم اعترافهم بأي اتفاقيات سابقة، وأن السودان اعتدى على أراضيهم ومواطنيهم".
أضاف مجذوب "من المؤكد أن إثيوبيا لا تستطيع الدخول في حرب مع السودان نظراً لظروفها الداخلية، كما أن السودان يمتلك أوراق ضغط قد تؤدي إلى تفكيك الدولة الإثيوبية أو تغير النظام الإثيوبي من خلال مساعدة الـ"تيغراي"، وفتح جبهات المعارضة الإثيوبية ممثلة في بني شنقول والأرومو، وكذلك طرد السودان الإثيوبيين الموجودين في بلاده والبالغ عددهم نحو ثلاثة ملايين يقومون شهرياً بتحويل مبالغ طائلة بالدولار، كما يحتضن السودان 65 ألف لاجئ إثيوبي هربوا بسبب حرب تيغراي، فضلاً عن اعتماد أديس أبابا على السودان في توفير العديد من السلع الأساسية، إذ تنشط بين البلدين حركة تجارية عبر الحدود المشتركة".
ونوه المتخصص في إدارة الأزمات والتفاوض، إلى أنه أمام السودان خيارات عدة للرد على التجاوزات الإثيوبية، منها أن يلجأ إلى أخطار العالم، ولا سيما المنظمات الإقليمية والقارية بما تقوم به أديس أبابا من هجمات وتجاوزات متكررة على أراضيه، وبلا شك، فإن المجتمع الدولي سيقف إلى جانب السودان لأنه على حق في الدفاع عن أراضيه التي كان يسيطر عليها الجانب الإثيوبي لأكثر من 30 عاماً، بموجب الخرائط التي وضعت في ضوء الاتفاقيات الدولية التي اعترفت بها إثيوبيا آنذاك.
ولفت مجذوب إلى أن أديس أبابا رفضت ثلاث وساطات قام بها من كل من ممثل رئيس دولة جنوب السودان، ومندوب الاتحاد الأوروبي وزير خارجية النرويج، ووزير خارجية بريطانيا، لكونها تتبع سياسة كسب الوقت لمعالجة مشاكلها الداخلية، بالتالي، لن تجلس على مائدة التفاوض إلا بعد تحقيق أهدافها التي تصبو إليها.
القانون الدولي
في المقابل، قال أستاذ العلاقات الدولية في الجامعات السودانية السفير حسن بشير، إن "إثيوبيا تثير مغالطات ليست في مكانها، فما يحدث من خلاف على الأراضي الحدودية موثق في الاتفاقية الدولية لعام 1902، والتي حددت التقسيمات الحدودية أحقية السودان لهذه الأراضي بحضور الجانبين البريطاني والإثيوبي، لكن الظاهر أن الإثيوبيين لا يرغبون بالاعتراف بهذا الحق لأسباب داخلية، فالسودان يطالب بحقه المشروع، وهناك خرائط تؤكد ذلك تم تسليمها للأمم المتحدة، وعلى إثيوبيا من ناحية أدبية، كونها تحتضن مقر الاتحاد الأفريقي، والعديد من المنظمات الإقليمية، وتشارك بفاعلية في استتباب السلام والاستقرار في المنطقة من خلال عضويتها في منظمة دول إيقاد (الهيئة الحكومية للتنمية في أفريقيا)، أن تمارس أقصى طرق التفاوض، وعليها أن تراعي هذا الجانب".
أضاف بشير "صحيح أن السودان كان في حال غفلة، لكن مسألة تملك الأرض وفق سياسة وضع اليد لا تسري في القانون الدولي، لذلك، الأفضل للجانب الإثيوبي اتباع مسألة التفاوض الثنائي، فالموضوع يتعلق بوضع علامات على الحدود وليس إعادة تقسيم، كما على إثيوبيا تحري الدقة قبل إطلاق الأكاذيب بأن السودان اعتدى على أراضيها ومواطنيها، فضلاً عن مراعاة حقوق الآخرين، والجوار، بالتالي، تكرار الاعتداءات عمل غير مقبول تريد به أديس أبابا إثبات وجودها على تلك الأراضي، لكن لا أعتقد أن الأمر سيصل إلى حرب معلنة، خصوصاً أن السودان لديه دور فاعل يدعو إلى تهدئة الأوضاع في القارة، وبخاصة منطقة شرق أفريقيا، كما أن هناك جهوداً دولية وإقليمية تحول دون ذلك".
اتهامات متبادلة
وسبق أن اتهمت الخرطوم القوات والميليشيات الإثيوبية، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بنصب كمين لقواته على طول الحدود، ما أسفر عن مقتل أربعة جنود وإصابة أكثر من 20 عسكرياً، فضلاً عن اختراق طائرة عسكرية إثيوبية الأجواء السودانية، وغيرها من الاتهامات المتكررة بوجود عدوان إثيوبي على الأراضي السودانية الواقعة على حدود البلدين. وتتهم إثيوبيا، في المقابل، الجيش السوداني بتنظيم هجمات باستخدام الرشاشات الثقيلة، ما أسفر عن قتل وجرح عدد من المدنيين، فضلاً عن اتهام ضباط سودانيين بمحاولة استغلال القتال في منطقة "تيغراي" الواقعة في أقصى شمال البلاد للضغط على الجانب الإثيوبي في منطقة الفشقة.
وفي 31 ديسمبر 2020، أعلنت الخرطوم أن الجيش استعاد السيطرة على الأراضي التي يحتلها مزارعون إثيوبيون، ووصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، ما حدث بأنه انتهاك "غير مقبول" للقانون الدولي يؤدي "إلى نتائج عكسية".
ويأتي الخلاف الحدودي في وقت حساس بالنسبة إلى العلاقات بين البلدين، خصوصاً وسط مساعٍ تشمل مصر أيضاً، للتوصل إلى اتفاق في شأن سد النهضة الإثيوبي الضخم على النيل الأزرق.