الشعبوية ليست حديثة، فقد ظهرت إلى جانب سيرورة الديمقراطية في القرن التاسع عشر، ولم تلبث أن تجاوزت موطنها، أي أميركا اللاتينية لتوطد أقدامها في الاتحاد الأوروبي، وتمد وجودها من كراكاس إلى بودابست، ومن واشنطن إلى روما. على رغم ذلك لا يزال مصطلح "شعبوية" كأداة جدالية، لا تحليلية، بينما ينبغي التخلي عن الموقف الجدالي وتناول الشعبوية بوصفها مشروع حكم، والنظر إليها باعتبارها تحوّلاً في ركائز الديمقراطية الحديثة، أي الشعب والتمثيل ومبدأ الغالبية.
في "أنا الشعب، كيف حوّلت الشعبوية مسار الديمقراطية" ترجمة عماد شيحة، دار الساقي 2020، تعتبر الباحثة الإيطالية ناديا أوربيناتي الديمقراطية الشعبوية نمطاً جديداً من الحكم التمثيلي يرتكز على علاقة مباشرة مع الزعيم وأولئك الذين يعرّفهم بـ"الصالحين" أو "الأخيار" من خلال التحشيد الدائم للجمهور، بغية إحلال ديمقراطية شعبوية محل الديمقراطية الحزبية، في ظل إخفاق الوعود التي قطعتها الديمقراطيات الدستورية، وتنامي أوليغارشية مستفحلة وجشعة.
تحاول المؤلفة الإضاءة على الكيفية التي تحول فيها الشعبوية مسار الديمقراطية التمثيلية. مصطلح "شعبوية" في رأيها، ملتبس بحد ذاته، لأنه ليس أيديولوجياً أو نظاماً سياسياً محدداً بل "سيرورة تمثيلية" يمكن اعتبارها ضرباً من السياسة، يسعى إلى تمثيل الناس العاديين الذين يشعرون بأن جماعات النخبة تتجاهل شواغلهم.
الزعماء الشعبويون يريدون التحدّث مباشرة إلى الشعب ونيابة عنه، من دون حاجة إلى وسطاء، لا سيما الأحزاب ووسائل الإعلام المستقلة. فالمطلب المركزي للحركات الشعبوية كافة هو التخلّص من أي شيء يقع بيننا "نحن" الشعب وبين الدولة، وتأكيد العلاقة المباشرة بين الزعيم والناس، إذ إنهما قد اندمجا على نحو فعال ولم تعد هنالك نخبة وسيطة تفرّق بينهما. فهل نستطيع تبعاً لذلك، النظر إلى الشعبوية بوصفها "ديمقراطية غير ليبرالية"؟
ثمة تناقضات بنيوية جوهرية بين الشعبوية والديمقراطية تباعد بين مفهوميهما، فديمقراطية تنتهك الحقوق السياسية الأساسية، وتمنع إمكانية تشكيل غالبيات جديدة، ليست ديمقراطية على الإطلاق، إذ لا يمكن تصوّر الديمقراطية من دون التزام الحريات المدنية والسياسية. فالخصوم هم دوماً جزء من اللعبة، ومستقبل الديمقراطية يتوقف على قابلية تحول الغالبيات إلى أقليات، وفي المقابل، تحوّل الأقليات إلى غالبيات.
لكن الشعبوية ليس في وسعها أن تكون ديموقراطية لأن الغالبية التي تمثلها ليست غالبية من بين غالبيات أخرى، بل الغالبية "الخيّرة" وهي بذلك تمثل تشويهاً لمبدأ الغالبية وللمؤسسات الديمقراطية الدستورية، وإذا وصلت إلى السلطة فقد تشرّع الأبواب أمام الحكم التسلّطي أو حتى الدكتاتوري بالاعتماد على جمهور متلقين غير متسامح مع المعارضة ومستخف بالتعددية.
صبغات متعددة
وإذا كانت الشعبوية ظاهرة تقاوم التعميم وتصطبغ بصبغات متعددة، قومية أو دينية أو علمانية، إلا أنها قد تتخذ الأنموذج الأكثر إزعاجاً في الديمقراطيات الدستورية، بحيث تكتسح شوارع إيطاليا حركات نازية تضرب المهاجرين الأفارقة.
ويدلي زعماء شعبويون أوروبيون بتصريحات منذرة بالخطر بشأن تلويث الأفكار الإسلامية للجذور المسيحية لأممهم، أو تلويث الهجرة للجوهر العرقي للشعب. فهل ثمة تلاق إذن بين الشعبوية والفاشية والديمقراطية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تشترك الشعبوية والفاشية بسمات مهمة، إلا أنه ينبغي أن تبقيا منفصلتين مفهومياً. خلافاً للفاشية لا تعلّق الشعبوية الانتخابات الحرة والتنافسية. فالشرعية الانتخابية بعد أساسي يميز الأنظمة الشعبوية، في حين أن الفاشية نظام قائم بذاته يريد تشكيل مجتمع وفق مبادئه التي ترفض الفكرة القائلة إن الشرعية تنبع من السيادة الشعبية والانتخابات الحرة. باختصار، تدمر الفاشية الديمقراطية بعد استخدام وسائلها لتقوية نفسها، أما الشعبوية فتشوّه الديمقراطية بتحويلها من دون تدميرها.
يبقى ثمة تناقض بنيوي بين الشعبوية والديمقراطية، جهدت المؤلفة لتأكيده انطلاقاً من معنى "الشعب" و"الغالبية"، إذ يختلف معنى الشعب بالنسبة إلى الشعبوية اختلافاً بيناً عن معناه في الديمقراطية الدستورية. المعنى الديمقراطي للشعب يتضمّن جميع المواطنين، ولا يعرّف بأي فئة من المجتمع.
كما أن معنى "الغالبية" من وجهة نظر الشعبوية يختلف عن معناها من وجهة نظر الديمقراطية، فالشعبوية لا تستخدم الغالبية كمنهج يحدد الطرف المنتصر وحجم المعارضة، بل إنها تستخدمها عوضاً عن ذلك، كقوة تدعي أنها تعبر عن الأشخاص الصالحين، ما يضفي شرعية على تقزيم المعارضة وامتهانها. وهكذا فالشعبوية تعرّف الشعب بجزء من المجتمع، جاعلة الغالبية قوة حاكمة في مواجهة الجزء الآخر، تعمل لصالح جزء يحل محل الكل، وليس باسمه ومن أجله، الأمر الذي يسم السياسة بالتحيز.
خلاصات الكتاب
ثمة استنتاجات خلصت إليها المؤلفة:
1 ـ تتطور الشعبوية داخل الديمقراطية التمثيلية وتحوّل نمطها لكن من دون إسقاطها.
2 ـ ظاهرة الشعبوية في السلطة تمثل التشوّه الأساسي للديمقراطية المعاصرة.
3 ـ الشعبوية ليست حلاً لأزمة المواطنية، بل هي منهج تنصّب فيه نفسها كغالبية خيّرة تتوسل الانتخابات لتأكيد الغلبة على ديمقراطية الأحزاب المخفقة.
4 ـ تتخذ الشعبوية أنماطاً متعددة، إلا أنها في المحصلة لا تستطيع إيجاد حلول للمشكلات السياسية والاجتماعية التي طرحت نفسها حلاً لها، في مواجهة كل الأحزاب والأيديولوجيات.