على الرغم من أن الرئيس الأميركي جو بايدن يواصل سياسة سلفه دونالد ترمب المتشددة حيال الصين، التي تهدف إلى كبح نفوذ بكين دولياً على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وعلى رغم اعتراف الكثيرين في الولايات المتحدة وأوروبا بأن الصين هي النجم الصاعد الذي يهدد قوة الغرب، فإن هناك من يرى صورة مغايرة، تستند إلى الكثير من العوامل التي تشير إلى أن الصين قوة متراجعة بسبب ديونها الهائلة وإنتاجها المتقلص ومشكلاتها السكانية وصراعاتها الحدودية، وأنه على رغم استبعاد حدوث صراع وشيك بين أميركا والصين فإنه يقترب أكثر من أي وقت مضى. فما أسباب تراجع القوة الصينية في المستقبل؟ ولماذا يقترب الصراع بين العملاقين العالميين؟
التحديات نفسها
ورث بايدن التحديات نفسها التي واجهها ترمب وفشل في حلها، بدءاً من عجز تجاري أميركي هائل لصالح الصين، مروراً بسرقة بكين للملكية الفكرية الأميركية وانتهاءً بالنزاع حول السيطرة على بحر الصين الجنوبي الذي تهدد مطالبات الصين بعدد من الجزر الاستراتيجية فيه، وصول الولايات المتحدة إلى موارد طبيعية مهمة ومرورها عبر طرق شحن حيوية.
وعلى رغم استخدام الولايات المتحدة إمكاناتها العسكرية الضخمة خلال السنوات العشر الماضية، وخطاباً سياسياً ملتهباً لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في شرق آسيا، فإن القضية لا تزال خلافية ساخنة، وما زالت استراتيجية بايدن الجديدة المتحالفة مع الديمقراطيات الغربية في مواجهة الصين، غير واضحة المعالم بعد، على رغم تعهد بايدن بالقتال دفاعاً عن مكانة أميركا حول العالم.
ولكن كيف يمكن أن تتغير السياسة الخارجية الصينية وفقاً لتغير سياسة الولايات المتحدة والغرب عموماً إزاء بكين؟ وما الذي يعنيه سياق التطور والصعود الصيني على الساحة الدولية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً بينما تتزايد مؤشرات مقلقة حول المستقبل؟
يشير باحثون ومؤرخون وأساتذة علوم سياسية في الولايات المتحدة إلى أن ملامح الصراع الأميركي- الصيني تحدده العديد من العوامل في المستقبل، وهو يرتبط بسياق تغير الاستراتيجية الصينية والأميركية خلال العقود الثلاثة الماضية.
ثلاثة عقود من التغيير
بعد وفاة الزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ عام 1976، أدخل دينغ شياو بينغ وجيانغ زيمين اللذان جاءا بعده على رأس الحكم في بكين إصلاحات اقتصادية وضعت الصين على طريق نمو اقتصادي هائل، حيث صعدت الصين في ترتيب الناتج المحلي الإجمالي العالمي من المرتبة 11 عام 1990 إلى المرتبة الثانية في 2020 بعد الولايات المتحدة مباشرة.
وكان الرأي السائد بالعواصم الغربية في تسعينيات القرن الماضي هو أن التحولات الاقتصادية الجارية في الصين ستبلغ ذروتها حتماً بعد عقود لتجعل من الصين دولة غنية ومسالمة وديمقراطية، ولضمان وصول الصين إلى هذه النتيجة، كانت القوى الاقتصادية الكبرى على استعداد لاحتضان الصين كعضو كامل في نادي مجتمعات السوق المفتوحة ودمجها في الأسواق الدولية، وقبولها في المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، إضافة إلى حرص العواصم الغربية على ضمها إلى شبكة المؤسسات السياسية الدولية التي شُيدت بعد الحرب العالمية الثانية لتعزيز التعاون وحل النزاعات بالطرق السلمية.
إخفاء القدرات
كانت الصين سعيدة بالانضمام إلى نادي الدول الغربية، على الأقل في ما يتعلق بالتجارة والاستثمار، فقد كانت استراتيجية العلاقات الخارجية للزعيم الصيني دنغ شياو بينغ في تسعينيات القرن الماضي تتمثل في سياسة "إخفاء القدرات والانتظار"، وتبني سياسة عدم لفت الأنظار أو ادعاء القيادة.
وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ الرئيس هو جينتاو في اتخاذ خطوات متواضعة نحو مزيد من الحضور الصيني على المسرح العالمي عبر بناء قوة بحرية صينية حديثة والبدء في تشييد سلسلة من الموانئ في باكستان وغيرها من البلدان، ولكن مع استمرار تبني سياسة "الصعود السلمي" للصين.
الحلم الصيني
غير أن سياسة الصعود السلمي تغيرت عندما تولى الزعيم الحالي شي جين بينغ، مقاليد السلطة في بكين عام 2012، إذ أطلق شي جين بينغ نهجاً مختلفاً يعزز القومية الصينية ويتبنى القوة، متخلياً بذلك عن مبدأ إخفاء القدرات والانتظار، وهكذا أعلن شعار "الحلم الصيني" الذي يصور بلاده كقوة عظمى ذات نفوذ متزايد، ليس فقط في آسيا ولكن في جميع أنحاء العالم، حيث اتخذت الصين موقفاً أكثر وضوحاً تجاه العالم، واستعرضت قوتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي ومناطق أخرى، وربطت الدبلوماسية بالاستثمارات الضخمة في تطوير البنية التحتية بآسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
تغير استراتيجي
بمرور الوقت، رأى العديد من القادة السياسيين في واشنطن والغرب عموماً، أن الصين عازمة على قلب توجهات النظام الاقتصادي الذي أنشأوه والتحول إلى قوة سياسية عسكرية تعززها قوة اقتصادية متنامية، وفي المقابل غيرت الولايات المتحدة محور اهتمامها الاستراتيجي عام 2015 ليركز بشكل أكبر على آسيا والصين، ويتراجع نسبياً عن الشرق الأوسط الذي ظل محور اهتمام واشنطن منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي محاولة لاحتواء الصين أو على الأقل تقييد حركتها، عززت الولايات المتحدة تحالفاتها مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين، وشكلت تحالفاً من الدول المجاورة للصين، وزادت التعاون الدفاعي مع الهند وأستراليا واليابان.
قلق أميركي
وتأكدت مخاوف أميركا والغرب في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017، عندما أعلن الزعيم الصيني في المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي، هدفه بنقل الصين إلى مركز الصدارة في الشؤون الدولية، قائلاً، إن الصين لا تسعى للهيمنة على العالم، لكنه حذر من أنه لا ينبغي لأحد أن يتوقع من الصين قبول أي شيء يعرقل مصالحها، كما ألمح إلى أن صعود الصين سيخلق نظاماً عالمياً ذا سمات وخصائص صينية.
ولكن بعد ثلاثة أشهر من هذا التاريخ، أعلن البيت الأبيض استراتيجية الأمن القومي الأميركية المُحدثة رسمياً، التي اعتبر فيها أن صعود الصين يشكل تهديداً، مع إشارة واضحة إلى سرقة الصين حقوق الملكية الفكرية الأميركية، وتطوير بكين أسلحة متقدمة قادرة على تحييد القدرات العسكرية الأميركية المتفوقة.
تراجع الحلم الصيني
غير أن حلم الصين ليس مضموناً أن يتحقق على ما يبدو، بحسب ما قال الزعيم الصيني شي جين بينغ، خلال اجتماع مع أعضاء الحزب الشيوعي في يناير (كانون الثاني) 2019، إذ أكد أن الصين والحزب الشيوعي يواجهان تحديات خطيرة على جميع الجبهات منها تضاعف مصادر الاضطرابات ونقاط الخطر، وأن الحزب معرض لخطر التراخي وعدم الكفاءة.
وفي الوقت الذي تواجه بكين تحالفاً تقوده الولايات المتحدة ملتزماً بمقاومة القوة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية للصين في آسيا، تعاني الصين ارتفاعاً هائلاً في الديون، إذ زادت ديون الصين على 258 في المئة من إجمالي الناتج المحلي حتى منتصف العام الماضي، ما يشكل قلقاً لدى الاقتصاديين لأن الديون ارتفعت بالوتيرة نفسها التي تؤدي عادة إلى كساد مالي وتراجع اقتصادي.
كما انخفض معدل النمو الاقتصادي للصين من مستوى 14 في المئة عام 2007 إلى 6.11 في المئة عام 2019، وتراجع معدل الإنتاجية من نحو 7 في المئة عام 2018 إلى 6.16 في المئة عام 2019.
أمة تشيخ
ولعل أكثر ما يثير القلق في الصين هو التركيبة السكانية، فعلى الرغم من أن الصين هي أكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان (1.442 مليار نسمة)، فإن عدد السكان يتناقص بسرعة ويتقدم السكان في السن، وتشير الإحصاءات الرسمية إلى انخفاض معدل تزايد عدد سكان الصين عام 2018 للمرة الأولى منذ المجاعات المميتة في الستينيات، فيما تحذر الأكاديمية الصينية للعلوم من أنه إذا استمرت الخصوبة في الانخفاض عن معدلها الحالي البالغ 1.6 طفل لكل امرأة ووصل إلى 1.3 كما هو متوقع، فإن عدد سكان الصين سينخفض بنحو 50 في المئة بحلول نهاية هذا القرن.
وعلى الرغم من أن الصين أنهت سياسة طفل واحد لكل أسرة عام 2015 للحد من مشكلتها السكانية، فإن سكانها لا يزالون يتقدمون في السن، ما يترك عدداً أقل من العمال لدعم أعداد متزايدة من كبار السن، فبعد 20 عاماً من الآن سيتضاعف كبار السن في الصين من 10 في المئة حالياً إلى أكثر من 20 في المئة من السكان، وبحلول عام 2050 سيتجاوز 330 مليون صيني سن 65، وقد تتجاوز نسبة الإعالة للمتقاعدين 40 في المئة، ما يعني أنه سيتعين على الزوجين العاملين من الشباب، دعم أربعة آباء مسنين، الأمر الذي يشكل ضغطاً غير مسبوق على الروابط الأسرية التي تربط المجتمع معاً، وبإضافة عدد الأطفال دون سن 15 سنة، يمكن أن تصل نسبة الإعالة إلى 70 في المئة، ولهذا يجب على الصين الآن معرفة كيفية توفير نظام دائم للخدمات الاجتماعية لرعايتهم، وهو أمر يشكل عبئاً ثقيلاً على الدولة والمواطنين.
وتثير هذه التوقعات مجتمعة مخاوف داخل الحزب الشيوعي الصيني من أن الأمة سوف تشيخ في السن قبل أن تصبح غنية، ما ينذر باضطرابات اجتماعية خطيرة، ويعد هذا أحد الأسباب التي جعلت شي جين بينغ وغيره في القيادة الشيوعية الصينية لا يبدون ثقة كبيرة في إمكانية استمرار النمو الصيني الذي أبهر العالم، وبدلاً من ذلك تتزايد مخاوفهم من أن القيادة العالمية للصين تنزلق بعيداً من متناول أيديهم.
تحفز عسكري
ومع ذلك، فإن هذه المخاوف تعمل على إعادة تشكيل السياسة الخارجية للصين، ما يؤدي إلى اتخاذ الصين إجراءات عسكرية بشكل متزايد سواء كان ذلك تجاه الهند المجاورة التي تتشارك معها في نزاع إقليمي في جبال الهيمالايا، أو تعزيز قدراتها العسكرية بالقرب من تايوان، كما تضاعف الصين من جهودها العسكرية لتأكيد ما تعتبره حقوقها الإقليمية في جزر متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، فضلاً عن قمع الحركة الديمقراطية في هونغ كونغ.
وبينما كان الغرب يعتقد أن الصين ليست لديها رغبة في الحرب أو المواجهة العسكرية مع أميركا وأنها فقط ترغب في الهيمنة الاقتصادية العالمية، فقد تبنى الزعيم الصيني شكلاً جديداً تصادمياً لدبلوماسية الصين العالمية ما يقوض بشكل فاعل المصالح الأميركية في الخارج.
دبلوماسية المحارب الذئب
ويسمي البعض الدبلوماسية الصينية الجديدة بدبلوماسية المحارب الذئب، التي تعود إلى اسم فيلمين صينيين يجسدان دوراً بطولياً للقوات الخاصة الصينية التي تتغلب على مرتزقة أميركيين في أفريقيا وآسيا. وبصرف النظر عن التسمية، إلا أن تلك هي المرة الأولى منذ ستة عقود التي تتبنى فيها الصين والغرب وجهات نظر مختلفة جذرياً في ما يتعلق بالمسار الذي يراه كل طرف لدور الصين العالمي.
مخاطر الصدام
وقد تكون نتيجة هذه التصورات المختلفة لدور الصين العالمي مزعزعة للاستقرار، لأنه إذا شعرت بكين التي تتراجع قوتها بالتهديد من سياسة الاحتواء الغربي التي يتبعها الرئيس الأميركي جو بايدن مع حلفائه، فقد تتضاعف مخاطر الصدام مع الهند أو تايوان وفي هونغ كونغ أو بحر الصين الجنوبي.
وإذا حدثت توترات ونزاعات عسكرية في المناطق المحيطة للصين، فقد لا يكون النظام الدولي الذي أسس بعد الحرب العالمية الثانية لتعزيز التعاون الاقتصادي وتجنب الحرب، قادراً على تحمل ضغوط التحديات الصينية المتزايدة في الداخل.
ومع ذلك فإن الحرب بين الغرب والصين تبدو احتمالاً بعيداً حتى الآن نظراً لتفوق القدرات العسكرية بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب والصين من جانب آخر، لكن احتمال الصراع ليس بعيداً كما كان يبدو من قبل، وقد يكون أقرب مما نظن.