"شاهد من إشبيلية" هي الرواية الرابعة للكاتبة الإماراتية منى التميمي، بعد "حارس التوت"، و"رسائل صوفية"، و"قلم أحمر". وإذا كانت تتناول في الأولى العلاقة بين الإنسان والطبيعة باعتبارها ملجأً يلوذ به حين يحاصره الواقع، وترصد في الثانية العلاقة بين الرجل والمرأة ومواجهة الواقع بأدوات صوفية، وتبين في الثالثة القدرة على تحقيق الأحلام على الرغم من معوقات الواقع، فإنها في الرابعة تتناول قدرة الإنسان على التكيف مع الواقع، في ظروف طبيعية مختلفة. وهكذا، يقوم العالم الروائي، في الروايات الأربع، على جدلية العلاقة بين طرفين اثنين؛ أحدهما ثابت هو الواقع، والآخر متغير، وهو: الطبيعة في الأولى، والتصوف في الثانية، والأحلام في الثالثة، والرحلة في الرابعة.
العنوان والمتن
في "شاهد من إشبيلية" (الدار العربية للعلوم، ناشرون)، تحكي التميمي حكاية مالك بن غدير الإشبيلي وصاحبه نجم الدين، على ما ورد في العنوان الفرعي للرواية. وعلى الرغم من أن الأحداث تجري في القرن الحادي عشر الميلادي، خلال حكم بني عباد لإشبيلية، فإن الشخصية المذكورة ليست تاريخية، بل هي من بنات مخيلة الكاتبة، ما ينفي عن الرواية شبهة الرواية التاريخية، في المحتوى دون الإطار. وإذا ما علمنا أن الرواية تتناول رحلة طويلة، على مدى عام كامل، تقوم بها الشخصية الروائية، من مكة إلى قرطبة، وتروي مشاهداتها، فإننا نستنتج أننا إزاء رحلة يتم التعبير عنها في قالب روائي. وتأتي كلمة "شاهد" في العنوان، والمشاهدات التي يشاهدها الراوي في المتن، لتجعل من العنوان مفتاحاً مناسباً للمتن.
بالانتقال من التنظير إلى التطبيق، تبدأ الرواية بوصول مالك بن غدير الإشبيلي إلى مكة، وتنتهي بنهوضه من غيبوبته في قرطبة. والوصول والنهوض كلاهما، وما بينهما من أحداث، تمتد طيلة عام من الزمن، وتحصل في غير مدينة عربية، وتنخرط فيها مجموعة من الشخوص، هي ما يشكل متن الرواية.
أحادية الاتجاه
في الوقائع، يصل مالك إلى مكة، قادماً من إشبيلية، بصحبة ابن خالته نجم الدين، تنفيذاً لمهمة كلفه إياها الأب، وتقضي بالاهتمام بالعمة التي رحل زوجها عن ابنتين صغيرتين وبستان وضياع وأملاك، ورعاية شؤونها حتى يثبت الأمر، والعودة. وإذ ينجز مالك ما كلف به، خلال مدة معينة، ينطلق عائداً إلى إشبيلية، مصطحباً ابن خالته نجم الدين، والفتى الغرناطي الأصل زين الذي يعمل في خدمة العمة، وآخرين يتعرف إليهم في قافلة العودة. وتكون جلجلة، برية وبحرية، يواجهون فيها مخاطر كثيرة، طبيعية وبشرية، غير أنهم يصلون في نهايتها إلى بر الأمان. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الرواية لا تشير، من قريب أو بعيد، إلى رحلة القدوم من إشبيلية، بل تقتصر على رحلة العودة إليها. وبذلك، تكون الرحلة الروائية أحادية الاتجاه.
يلعب مالك بن غدير الإشبيلي الذي تسند إليه الكاتبة مهمة الروي دور الشاهد على الأحداث، من جهة، والمنخرط فيها مع سواه من الشخوص، من جهة ثانية. وفي الدورين، يروي مشاهداته وانطباعاته ومنظوره للأمور. ويأخذنا في رحلة طويلة، تنطلق، في قسمها البري، من مكة، وتمر بنجد والكوفة وبغداد والموصل ودمشق، وتبلغ الإسكندرية. وتنطلق، في قسمها البحري، من الإسكندرية، وتمر بصقلية، وتصل إلى إشبيلية. ولا يكاد يلقي عصا الترحال فيها حتى ينطلق في رحلة برية - نهرية إلى سرقسطة، في شأن تجاري، تلبيةً لطلب جاره الحارث بن زهير القرطبي، وهو الذي لا يرد طالباً، فكيف إذاً كان الطالب جاراً؟ وحين يعود منها، ينطلق، مع صاحبيه نجم الدين وقصي العامري، في رحلة إلى قرطبة، بحثاً عن عمل، وهناك تكون خاتمة المطاف، ونهاية الرواية.
محطات الرحلة
خلال هذا الرحلة البرية/ البحرية/ النهرية، نتعرف، من منظور الراوي/ الروائية، إلى: ازدهار مكة، وطيب ثرى نجد، وتاريخية الكوفة، وعراقة بغداد والموصل، ورحابة الشام، وغنى الإسكندرية ومُنعتها، وقسوة صقلية، ونعيم إشبيلية، وبياض سرقسطة، وجمال قرطبة. وإذا كانت هذه الانطباعات معروفة للقاصي والداني، في ذلك العصر، ما يبرر ورودها على لسان الراوي، فإن إيراد بعض المعارف النظرية، التاريخية والجغرافية والأنتروبولوجية، المتعلقة بهذه المدن وسكانها، على لسان هذا الراوي، يحمل الشخصية أكثر مما تحتمل، ويبدو نوعاً من الاستعراض المعرفي الذي تمارسه الروائية، وتسنده إلى الراوي، فيشكل الأخير قناعاً للأولى.
يتحول الراوي إلى أنثروبولوجي حين يقول "أهل مكة سريعو الغضب" [...] "إلا أنهم يتسمون بطيب المعشر، وهم أناس ذوو ورع وتقوى وخلق كريم" (ص 46، 47). ويتحول إلى مؤرخ حين يصف اهتمام أبي العباس السفاح بالموصل بالقول "ثم قام بحركة إصلاح كبيرة فيها، فاتسعت أسواقها وطرقاتها، وتحسنت خدماتها، وارتقى اقتصادها" (ص 113)، على سبيل التمثيل، ناهيك بأن خروج الراوي بانطباعات، جامعة مانعة، حول بعض المدن، لا يتناسب مع الوقت القصير الذي يمضيه فيها، وهو لا يتعدى استراحة القافلة القصيرة. فيقول في بغداد "أحببت السير في طرقاتها، والتنزه تحت أشجارها" (ص 105). ويقول في الموصل "وقد سرني التنزه فيها" (ص 111)، على سبيل المثال لا الحصر.
ونتعرف، خلال الرحلة، إلى المخاطر التي واجهتها القافلة في البر، الطبيعية والبشرية، من عواصف رملية وغارات البدو ومطاردة الشياطين، وشح الماء، وغيرها، وتلك التي واجهتها السفينة في البحر، الطبيعية والبشرية، من أنواء بحرية، ورياح عاتية، وجرائم المجرمين واللصوص، وغيرها. على أنه لا بد من الإشارة إلى تمخض هذه المخاطر عن مشاعر إنسانية نبيلة؛ فيتحد الناس في مواجهة الخطر، وتتضافر جهودهم للعثور على الماء، ويتضامنون بعضهم مع بعض على اختلاف أصولهم ومعتقداتهم، وتقوم بينهم صداقات ومودات. ولا بد، في هذا السياق، من الانتقال من التعميم إلى التعيين، فنتوقف بالدرس والتحليل عند الشخوص المختلفة في الرواية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يمثل مالك بن غدير الإشبيلي شخصية إيجابية، تتمظهر إيجابيتها في وقائع معينة، تعكس منظومة القيم الأخلاقية السائدة، آنذاك. ومنها: طاعة الأب، ورعاية العمة، ومساعدة المحتاج، وإجارة الجار، والاهتمام بالرفيق، ورفع الظلم، وإحقاق الحق، ولين الجانب، والصبر على المكاره، وطلب العلم والدين، والولع بالشعر، وغيرها. ولا ينتقص من مثالية هذه الشخصية سوى مشاعر القلق والخوف والتوجس التي تنتابها في لحظات معينة، وتميط اللثام عن نقاط ضعفها.
ولا تقل عنها إيجابية شخصية قصي العامري التي تمثل منظومة قيم بدوية، تتمظهر في: الشجاعة، والدفاع عن الحق، والتصدي للظلم، ونجدة الملهوف، والوفاء للأصدقاء، والفراسة، وغيرها. وتندرج، في هذه الفئة، شخصيات: الشيخ المغربي غالب الزهري، والصاحب الإشبيلي نجم الدين، والفتى الغرناطي زين، والتاجر اللخمي، وعشتار النصراني، على اختلاف درجة الإيجابية، بين شخصية وأخرى.
من جهة ثانية، يمثل المزني شخصية سلبية في الرواية، تجسد الشيطان الذي يتراءى لمالك بين فينة وأخرى، ويتربص به الدوائر، ويسعى لإنزال الأذى به والإيقاع بينه وبين رفاقه. وحضور هذه الشخصية يعكس جانباً من الإيمان الديني للشخصيات الأخرى التي تؤمن بوجود الجن والشياطين. على أن الفارق بين هذه الشخصية السلبية والشخصيات الإيجابية يكمن في أن حضور الأولى في النص هو حضور غير مباشر من خلال توهم الآخرين لها، بينما تحضر الأخيرة، بشكل مباشر، من خلال المبادرة والفعل. وبالتالي، يمكن طرد الشيطان والتخلص منه بالإيمان والإرادة.