لست بحاجة لجهد ولا وقت ولا مال، كي تحصل على لقب "المفكر"، اركب مركب الدين بمجدافي السهل والرائج، فالدين "تابو" قديم عابر للزمن، والدين حيث كان مكانه حصن حصين، وهو كما الوجه الآخر للعملة الجنس، ما هو أس الحياة والحياء، وما استهلك الخوض في بحوره في غرب العالم. والدين والجنس يمتزجان ويتداخلان في الواقع والفكر، وكل منهما ذا صلة بالطبيعة والأسطورة فالتابو، فكلاهما مجذاف رئيس للبحث فيهما التاريخ، ما يعني الماضي حيث يمكن للمرء أن يركب قارب التصورات، وأن ينتحل الوقائع.
ضع افتراضاً في السلة، سيبيض افتراضات، فنّد واقعة واِئْتِ بنقيضها، وانزع عما تدحض قشرة المقدس، البس ما تفترض للواقعة فتكون كما تتصورها، قلّب قديم الكتب وأنسب لعقلك، ما فيها من رؤى لم تقبل في حينها، وهات من درر الوقائع، ما دفن من الاعتيادي والمقبول، أي لا تتعب نفسك كثيراً: خالف تُعرف، تاجر في البضاعة الرائجة تربح، ولا تذهب بعيداً فمنذ بارت بضاعة القومية راجت تجارة الدين.
لقد قال رفاعة الطهطاوي، من أُريد أن يكون البشير: لا فارق بين العرب والغرب سوى نقطة، عند ذلك راجت هذه "النقطة"، ما صارت بحاراً عظيمة من الحبر، وكثر من الأحبار، ومن الكثر من تيمّم شرقاً ومنهم من تغرّب، لكن النقطة كانت بحرهم ما غاصوا فيه. ومنذ ذاك أي من القرن الـ19 ظهر غواص تلو غواص، في ذاك القرن الشهاب، وضع الكثير مما يجب ومما لا يجب في المسألة/ النقطة الفارق. حيث كانت المسألة الدينية مسألة المسائل، وحينذاك وضع البيض والحجرة، حتى أتخمت مسألة المسائل بحثاً، حتى اختنق الفكر وغص العقل.
منذ القرن الـ19 سهل السهل، حين وضعت العربة أمام الحصان، وبات على من يفكر أن يكون مفكراً في أيامنا هذه، أن يرتكب الجرم بمجذافين اعتياديين: الأصالة والمعاصرة، ويحلب من الأصالة عصارة التراث، ومن المعاصرة فتاوى رشدية، ما يأتي خصومها بفتاوى تيمية.
منذ حرب الأيام الستة ونكسة يونيو (حزيران)، أمسى السبيل أن تكون مفكراً ممهداً، اشطح شطح المفكرين، وقل قولاً موكداً إنه لم يقل قبل، قل إنه أصل لا يدخله الشك، إنه اليقين كما الشمس، وكن مفسراً واثق الخطى، اغرف بمغرف الأصالة القول الفصل، واختم فتاويك بالمعاصرة، وكن المفكر من يرى الدين الحق، ففي سوق الحال ستروج أفكارك/ بضاعتك لا محال. لكن لا تنسَ أن السوق مزدحم بالمفكرين، أن التجارة الرائجة الدين ما الكل يقول فيه القول الفصل. لذا وأنت خير العارفين، لا يكون السبق لمن خرج عن الطريقة والطريق، فأعد البحث في ما بحث، كرر ما كُرر، لكن اجعل صوتك كالسوط الأعلى بين كل المفكرين، ولتوكد على ما وكدت: أن القول قولك، هو القول الفصل. وعود على بدء، احضر سلة، ضع فيها بيض الوقائع، اتخذ من واقعة سبيلاً لتأويل غير رائج، انسبه إليك، حكه بفكرك الثقاب، وأنتج حريقاً.
لا تراجع ما راج وخصوصاً ما لم يرج، وكما لا تتراجع عن أنك الفصل، فلا تطالع وتغرق في الغميق، كن على الضفاف عند الشاطئ، استلهم نظرة واسطع بنظرية، واحدس حدساً ولا تدلل إلا بالمشهور والمعتاد. حتى يكون ما تكتب الكتاب، ما لا خلاف عليه، لأنه يبحث في ما بحث، ويعرف المعروف والمشهور. فيكون قريباً لكل قارئ، حتى ولو أنه أمي، فما جدوى كتاب يستغلق عن السوقة ولا سوق له.
فيا من يفكر أن يكون، المفكر المبرز والنجم الساطع، الطريقة سهلة وإن الطريق قصير، فأعد القول، ما قيل منذ القرن الـ19، أعد لوكه ومضغه، أقبض عليه بالنواجذ، فقط بين حين وحين، اِئْتِ بغير مشهوره وروّجه، فتكن في ذلك، خير خلف لخير سلف.
أو افعل فعلة، صاحب الشاعر أحمد مطر: احضر سلة/ ضع فيها (أربع تسعات)/ ضع فيها صحفاً منحلة/ ضع مذياعاً/ ضع بوقاً... ضع طبلة/ ضع شمعاً أحمر/ ضع حبلاً/ ضع سكيناً/ ضع قفلاً... وتذكر قفله/ ضع كلباً يعقر بالجملة/ يسبق ظله/ يلمح حتى الأشياء/ ويسمع ضحك النملة!/ واخلط هذا كله/ وتأكد من غلق السلة/ ثم اسحب كرسياً واقعد/ فلقد صار عندك/ (لقب مفكر).
• الجملة الأخيرة، في قصيدة الشاعر أحمد مطر الشهيرة، بتصرف، فأصلها: فلقد صار عندك... دولة.