أزاح نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف، في زيارته الأخيرة سوريا، النقاب عن جملة ملفات تمخّضت حلولاً لأزمة الوقود التي تفجرت أخيراً بالبلاد، موجهاً الأنظار إلى الآبار النفطية الخارجة عن سيطرة الدولة والواقعة شمالاً، تحت سيطرة أحزاب كردية. وبينما تنتظر القيادة الروسية رداً سورياً حول اختيار إحدى المقترحات المقدّمة، برزت للواجهة فكرة تأجير الميناء البحري الواقع في طرطوس غرب سوريا.
تأجير الميناء
أثار إعلان بوريسوف طرح عقد تأجير الميناء لروسيا لمدة 49 عاماً ردوداً سورية متباينة، وهو لا يزال قيد الدراسة. وفي انتظار ردٍ من العاصمة السورية الأسبوع المقبل، لم يخفِ نائب رئيس الوزراء الروسي إحراز تقدمٍ لاستئجارِ الميناء، وقال خلال تصريح صحافي "سيشهد ميناء طرطوس تحولاً لصالح الاستخدام الروسي، هذا القرار سينعكس إيجاباً على التبادل التجاري بين البلدين".
نائب رئيس حكومة روسيا الاتحادية بوريسوف، خريج المدرسة العسكرية، ينحو باتجاه الطاقة والتكنولوجيا، وقد تدرّج بمناصب هامة في وزارة الدفاع، حتى تسلم منصب مدير عام المركز التقني العلمي والصناعات الإلكترونية، ونظم التحكم، قبل أن يُعيّن في منصب رفيع في وزارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو يرأس الجانب الروسي للجنة الروسية السورية المشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والفني. كانت له زيارة سابقة لدمشق في ديسمبر (كانون الأول) في العام 2018، طرح فيها أفكاراً للإسراع بإعادة الإعمار وتحسين الواقع الاقتصادي للسوريين، تحسباً من استغلالهم من قبل جماعات متطرفة، بسبب تدني مستوى المعيشة.
ردود فعل
ومع تصاعد وتيرة ردود الفعل الشعبية المتباينة بين موالاة ومعارضة، يشجب المعارضون هذا التأجير، ويعدونه شأناً سيادياً بالكامل. وندّدت المعارضة "بكثرة إعطاء امتيازات للحليف الروسي الذي بدأت الشراكة معه في سبتمبر (أيلول) في العام 2015، في وقت خسرت السلطة مساحات واسعة من البلاد في أوجّ النزاع المسلح على امتداد الرقعة السورية"، ولا تخفِ المعارضة أن الميناء يأتي ضمن جوائز الترضية لروسيا، مع توقّع المزيد من الامتيازات في المستقبل القريب للحليف الإيراني.
في المقابل يخفّف خبراء اقتصاديون من حدة الاتهامات في ما يخص تأجير الميناء، فنظام التأجير يشبه نظام الاستثمار دولياً(BOT) وهو نظام استثماري معمول إذ يتولى مستثمر من القطاع الخاص بعد ترخيص من الدولة، تشييد مشروعات أو استثمارها مدة تتراوح عادة بين 30 أو 40 عاماً.
الحضور الروسي
ومع تفاوت وطأة الصراعات الدولية للاستحواذ على مصادر وإمكانات سوريا خلال السنوات الماضية، يشكل الموقع الإستراتيجي المقام الأول لأي تحرك باتجاه الحصول على ذلك الامتياز بأي شكل، إن كان عسكرياً كما يحصل شمالاً وشمال شرقي سوريا، عبر وجود قوات أميركية بهدف القضاء على داعش أو قوات تركية بذريعة حماية حدودها.
في حين تحضر روسيا اقتصادياً وعسكرياً عبر عقود استثمار في الموانئ التي يراها مراقبون تستحوذ عليها موسكو، وفق اتفاقيات مع دمشق، أقرها البرلمان الروسي في العام 2017 في ميناء طرطوس، بالإضافة إلى قاعدة حميميم الشهيرة في اللاذقية غرب سوريا، والتي تحولت مركز مصالحة وطنية.
جمود الاستثمار
وما التحرك الأخير ومشاركة وفد اقتصادي سوري رفيع المستوى يضم وزير الاقتصاد ورجال أعمال في منتدى يالطا، إلا لتفعيل اتفاقيات وعقد صفقات لوجستية غاية في الأهمية، تدفع بها موسكو حليفتها سوريا، لتشكل روسيا وصلاً بحرياً غاية في الأهمية بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. وليس غريباً وفق مصادر اقتصادية مطلعة، أن يُفرد مؤتمر يالطا الاقتصادي الذي اختتم أعماله في 20 أبريل (نيسان) 2019، وناقش على مدار ثلاثة أيام علاقات جمهورية القرم التجارية، تخصيص جلسة لإعادة إعمار سوريا وعلاقات اقتصادية متنوعة، منها قطاع النقل بعد معاناة سورية من جمود استثماري يخيم على أجوائها التجارية.
اتفاقية قابلة للتفكيك
وتُدرج المعارضة السورية هذه الاتفاقية، إن نُفّذت، ضمن ما يقارب 30 اتفاقية تمنحها دمشق إلى حلفتَيها روسيا وإيران. وفي ضوء تصريحات المعارضة، فإن ميناء اللاذقية تحت سيطرة من الجانب الإيراني أيضاً.
ويَعتبر عضو الائتلاف الوطني السوري المعارض هشام مروة، أن تأجير الميناء يأتي لسداد فاتورة للروس، كنوع من الوفاء له، وأكد في تصريح "أنه عقد إذعان لسداد الدين، والأخطر أن روسيا ستدير كل المنتجات، وواردات السوريين ستمر تحت إدارة روسية". ولعل المعارضة التي لا توافق على هذا التطور غير الملزم لها، وتنبّه إلى ضرورة إعادة النظر بكل الاتفاقيات وهي قابلة للتفكيك، تأمل أن تكون الاتفاقية حبراً على ورق.
إنعاش التجارة البحرية
ويرجح خبراء اقتصاديون وسياسيون قبول دمشق المقترح الروسي، بناء على ما انبثق من اجتماع اللجنة الاقتصادية السورية الروسية المشتركة. ويرى الاقتصادي محمد حاج عيسى، أن "لفكرة التأجير فائدة اقتصادية ستقطف ثمارها سوريا، بفضل التجارة البينية، وستمنح زيادة في التبادلات التجارية، ومما لا شك في أنها ستنعكس انتعاشاً للاقتصاد السوري والروسي على حد سواء"، وأردف قائلاً "لا يمكن أن نخفي أن الفائدة تعود للسوريين والروس معاً، والأخيرة هي الأقدر على الاستثمار المذهل وتمتلك الخبرة الواسعة في المجال التجاري البحري، أنا مع استثمار الميناء، بغض النظر عمّن هو المستثمر، فإنه بالتأكيد سينعش الأسواق ويفك الحصار المفروض على سوريا".
نافذة بحرية للعالم
تعوّل سوريا كثيراً على مساعدة الشركات الروسية في زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، لاسيما بتأسيس شركة للنقل البحري تربط ميناء شبه جزيرة القرم الروسية باللاذقية وطرطوس، كنافذة بحرية لتبادل السلع. ومع انقسام السوريين بين مؤيدٍ لفكرة تأجير الميناء ومعارضين لها، فإنها بالتأكيد تبقى فكرة تستحوذ على اهتمام الاقتصاديين في الداخل السوري، لما لها من إنعاش لحراكهم التجاري، وكسرٍ للعزلة التي تعيشها البلاد.
أما الولايات المتحدة المراقبة للتطور الأخير، فتترقب تطبيق هذا القرار لتزيد من إحكام قبضتها على شرق سوريا، الذي تفوح منه رائحة النفط السوري الوافر، وعيونها على شواطئ المتوسط التي أعادت للقياصرة الروس أمجادهم.