رحل شاعر "الهشاشة والامّحاء"، السويسري الفرنكوفوني فيليب جاكوتيه، ليل الأربعاء الماضي، وبرحيله تنطوي صفحة جيل كامل من الشعراء الكبار الذين جددوا الشعر الفرنسي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية.
من مواليد مدينة مودون السويسرية 1925، نشأ جاكوتيه وأنجز تعليمه في مدينة لوزان. أما دعوته الشعرية فتحددت باكراً إثر لقائه بمواطنه الشاعر غوستاف رو الذي أصبح بسرعة صديقه ونموذجاً للشعر الذي سيكتبه لاحقاً، ثم بمواطنه الآخر، الناشر هنري لوي الذي كلفه بترجمة "الموت في البندقية" لتوماس مان ونشر ديوانه الأول "نشيد الموتى" (1947) الذي استوحاه من صور مقاومين شبان قُتلوا على يد النازيين في جبال الفركور الفرنسية. وبعد فترة قصيرة من التجوال في إيطاليا عام 1946، تصادق خلالها مع غوزيبي أونغاريتي، استقر في باريس لمدة سبع سنوات اكتشف أثناءها، محيطها الأدبي ونسج علاقات وثيقة مع فرنسيس بونج وهنري توما وبيار ليريس الذين لعبوا دوراً مهماً في نضجه الشخصي والشعري. ويجب انتظار صدور ديوانه "البومة" عام 1953 وزواجه من الفنانة التشكيلية آن ماري هاسلر في العام نفسه، كي يقرر الابتعاد عن صخب باريس، فيستقر نهائياً في مدينة غرينيان التي تقع في مقاطعة دروم الفرنسية.
في هذه المدينة الصغيرة، عثر جاكوتيه على نفسه وعلى ما يكفي من السكون والطمأنينة لتوزيع وقته بين عمله في الترجمة والنقد الذي سمح له بسد حاجات عائلته، وعمله الكتابي الشخصي. ومن عمله الأول الجبار، انبثقت ترجمات مجيدة لا تحصى لأكبر الأسماء الشعرية والأدبية، نذكر منها، ريلكه، هولدرلين، أونغاريتي، غونغورا، ماندلشتام، موزيل، من دون أن ننسى "الإلياذة" لهوميروس التي ترجمها منذ عام 1955 وما تزال تُعد إلى حد اليوم الترجمة المرجعية باللغة الفرنسية. عمل احتل مكانة مهمة في حياته وتتجاوز ثماره، على مستوى الكم، إنتاجه الشعري الغزير. ومع أن الحاجة هي التي أملته، لكنه لم يكن أبداً نشاطاً ثانوياً، بل شكل جزءاً لا يتجزأ من مشروعه الكتابي. وما إصداره عام 1997 كتاب "من قيثارة بأوتار خمسة"، الذي يجمع ترجماته من عام 1946 وحتى عام 1995، سوى دليل على الأهمية التي اكتساها هذا النشاط في نظره. نشاط تعود قيمته القصوى إلى توظيف الشاعر فيه جمالية "الامّحاء" التي استثمرها في شعره وجعلته ينجح بعبقرية، وبـ"صوت مكتوم وسري"، في "خدمة صوت القصيدة الأجنبية الأصلي"، بالتالي في الإجابة عن السؤال التالي الذي لطالما طرحه على نفسه، "أليس الطموح الأكبر للمترجم هو التواري الكلي؟".
جوهر الشعر
لكن أكثر من السكون والطمأنينة، ما كان ينتظر جاكوتيه في مدينة غرينيان الريفية، وتحديداً داخل الطبيعة التي تحيط بها ومناظرها الخلابة، هو تجل حدد بسرعة جوهر شعره ومادته. وفي البداية، لجأ إلى نثر تأملي لمساءلة تلك الأماكن والانفعالات القوية التي كانت تثيرها داخله، كما في "نزهة تحت الأشجار" أو "عناصر حلم يقظة" أو "مناظر مع وجوه غائبة"، معيداً باستمرار تسوية أوتعديل كلماته، ومغربلاً صوره، للاقتراب قدر المستطاع من واقعٍ فارّ وجوهري، وساعياً بلا كلل إلى تحليل ما يربط تجربته الشعرية بالانفعال المستشعر أمام العالم المحسوس.
ولكن انطلاقاً من "مناخات" (1967)، تعاقبت نصوصه الشعرية والنثرية، قبل أن تختلط مع تأملات واستذكارات وتدوينات داخل كتاب واحد، كما في "دفتر خضرة" (1990) أو في "ذلك الضجيج الخافت" (2008). كما لو أن غرفة الأصداء المتحركة التي يشكلها كل واحد من كتبه، بموسيقاها وتأملاتها واحتضانها الشغوف للعلامات، تلتم وتتركز في حركة واحدة، "لقد جمعتُ زاداً من العشب والماء السريع/ وأبقيتُ نفسي خفيفاً/ كي لا يغوص القارب كثيراً". في الوقت نفسه، حفر الشاعر "ثلماً" آخر داخل عمله الشعري من خلال الدفاتر التي ثابر على كتابتها منذ مطلع 1950 ومزج داخلها عبقريات النثر والشعر والتأملات والقراءات والأحلام. شكل كتابي عمل بلا انقطاع على تجويده، قبل أن ينشر ثماره في عدة مجلدات عام 1984 بعنوان "البزر".
في جميع هذه الكتب، لا يشعر القارئ إطلاقاً بأنه أسير جدران عالية، كما يحصل في دواوين عدد مهم من الشعراء الكبار. فباستثناء "العتمة" (1961)، وهي حكاية معتمة مكتوبة على شكل مناجاة للنفس، نتلقى هذه الأعمال كدروب مفتوحة يعبرها الضوء، حتى حين يكون الليل موضوعها. وداخلها، يحولنا الشاعر، بلا تفاصح، وبنبرة المحاورة الأكثر حيوية، إلى محاورين عبر توجيه نصوصه إلينا، كما لو أن كلاً منها "كلمة سر للفقراء، للمعزولين، بثياب كل يوم". هكذا نظر هذا العملاق المتواضع إلى الشعر عام 1955، وحتى وفاته، تمسك بهذه النظرة عبر كتابته نصوصاً "من العالم ولأجله".
الجانب الوجودي
لكن ما الذي يميز صوت جاكوتيه عن سائر أصوات معاصريه؟ سعيه إلى الذهاب إلى جوهر الأشياء، ورفضه أي تصنع أو زخرفة أو بلاغة في شعره الذي بقي سهل البلوغ، يعزز جانبه الوجودي تساؤل ملح حول استحالته، حول عجز الشاعر وإخفاقات اللغة. علماً أن ذلك لم يمنعه من وضع 53 كتاباً شعرياً ونثرياً و15 بحثاً، إضافةً إلى مراسلاته. وعلى المستوى الشكلي، كتب الشاعر أبياتاً أو نصوصاً نثرية قصيرة سعى فيها إلى العثور على ما يربطنا بالطبيعة والكون. وضمن بحثه عن الكلمة الأكثر دقة ممكنة، حاول جاهداً الحفاظ على ذلك الانفعال أمام الأشياء المتأمَل فيها، عبر العمل على المرئي والمحسوس. وهذا ما يفسر البساطة التي تصبغ شعره، وفي الوقت نفسه، الغموض الذي يلفه. فقصيدته تبقى أمام موضوعها، على عتبته، على وشك منحنا فرصة بلوغ الفرح المختبَر.
قصيدة يطبعها إذاً تواضع حكيم وحصر لخصهما الشاعر بقوله، "الامحاء وسيلتي للتألق". قصيدة تعكس خصوصاً تطلّب صاحبها الكبير على مستوى الحقيقة المنشودة فيها، من هنا تلك الريبة من الصور (الصورة تخفي الواقع، تشتت النظر)، وذلك الشك الذي يحضر بوضوح داخلها، "مع أن الحقيقة كانت تبدو بسيطة للغاية، لم أحفظ منها سوى القشرة، فارغةً، ولا حتى: أقنعة، تقليد أخرق...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولتجنب هذا الخطر الملازم لاستخدام الصور، صقل جاكوتيه ما سماه بـ"جمالية الرزانة" التي تتميز ببحث حثيث عن توازن ودقة صائبة في القول. من هنا إخضاعه نصوصه لتصحيحات وتعديلات مستمرة غايتها التقرب قدر المستطاع مما يتراءى للشاعر وتفشل الكلمات في تجسيده، "حقول القمح: لم تعد صفراء، وما زالت غير مغرة، ولا ذهبية. إنها شيء آخر".
عام 2014، جُمعت أعمال جاكوتيه الشعرية وصدرت في سلسلة "لا بليياد" العريقة عن دار "غاليمار". تكريم لم يحظ به وهو حي سوى الشاعرين سان جون بيرس ورينه شار. وعلى الرغم من الجوائز المهمة الكثيرة (18) التي توجت عمله، رفض الشاعر أن يصبح "شخصية رسمية"، وفضل على ذلك "البقاء خفيفاً"، وتمنى مراراً لو أنه بقي مجهولاً على غرار شعراء الهايكو اليابانيين الذين كرسوا حياتهم، مثله، لالتقاط العلامات. لكن هذا لا يعني أن تسمية "ناسك غرينيان" التي ألقيت عليه صحيحة. فجاكوتيه أحب العالم وجال في أرجائه بلا كلل، فزار جزيرتي مايوركا وإيبيزا، وحط في نيويورك، وقصد مراراً شمال إيطاليا وصقلية، وتوجه إلى اليونان وروسيا، قبل أن يحضر إلى لبنان وسوريا عام 2004 ويخط في ربوعهما كتاباً رائعاً صدر عام 2015 بعنوان "النار الهادئة".
يبقى أن نشير إلى أن دار "غاليمار" تتحضر لنشر كتابين جديدين لجاكوتيه، كتاب نثري بعنوان "سيدة النور"، وآخر شعري بعنوان "آخر غزليّة"، بينما تُصدر دار "بروي دو تان" قريباً كتاباً له بعنوان "مرحبا، سيد كوربيه" يتضمن جميع المقالات التي وضعها في الفن منذ 1956.